للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا القولُ - أعنى قولَ مَن قال: ذهَب عن قومِه مُغاضِبًا لربِّه - أشبهُ بتأويلِ الآيةِ، وذلك لدَلالةِ قولِه: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾. على ذلك. على أن الذين وجَّهوا تأويلَ ذلك إلى أنه ذهَب مُغاضِبًا لقومِه، إنما زعَموا أنهم فعَلوا ذلك استنكارًا منهم أن يُغاضِبَ نبيٌّ مِن الأنبياءِ ربَّه، واستعظامًا له. وهم بقيلِهم: إنه ذَهب مُغاضِبًا لقومِه. قد دخَلوا في أعظمَ مما أنْكَروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهَب مُغاضِبًا لربِّه. اخْتَلَفوا في سببِ ذَهابِه كذلك؛ فقال بعضُهم: إنما فعَل ما فعَل من ذلك كراهةَ أن يكونَ بينَ قومٍ قد جرَّبوا عليه الخُلْفَ فيما وعَدَهم، واسْتَحْيا منهم، ولم يَعْلَمِ السببَ الذي دُفِع به عنهم البلاءُ.

وقال بعضُ مَن قال هذا القولَ: كان من أخلاقِ قومِه الذين فارَقَهم قتلُ مَن جرَّبوا عليه الكذب، عسى أن يَقْتُلوه من أجل أنه وعَدَهم العذابَ، فلم يَنْزِلْ بهم ما وعَدَهم مِن ذلك. وقد ذكَرْنا الروايةَ بذلك في سورةِ "يونُسَ"، فكرِهْنا إعادتَها (١) في هذا الموضعِ.

وقال آخرون: بل إنما غاضَب ربَّه مِن أجلِ أنه أُمِر بالمصيرِ إلى قومٍ ليُنذِرَهم بأسَه، ويَدْعُوَهم إليه، فسأَل ربَّه أن يُنظِرَه؛ ليَتَأَهَّبَ للشُّخوصِ إليهم، فقيل له: الأمرُ أسرعُ مِن ذلك، ولم يُنظَرْ حتى شاء أن يُنْظَرَ إلى أَن يَأْخُذَ نعلا يَلبَسُها (٢)، فقيل له نحوُ القولِ الأولِ، وكان رجلًا في خُلُقِهِ ضِيقٌ، فقال: أعْجَلَني ربي أن آخُذَ نعلًا! فذهَب مُغاضِبًا.

وممن ذُكِر هذا القولُ عنه الحسنُ البصريُّ، حدَّثني بذلك الحارثُ، قال: ثنا


(١) في ص، م، ت ١، ف: "إعادته". وينظر ما تقدم في ١٢/ ٢٩٦.
(٢) في م: "ليلبسها".