للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فإذْ كان تَفاضُلُ مراتبِ البَيانِ، وتَبايُنُ منازلِ دَرَجاتِ الكلامِ بما وصَفْنا قبلُ، وكان اللَّهُ تعالى ذِكْرُه وتقَدَّست أسماؤُه أحْكمَ الحُكماءِ، وأحْلَمَ الحُلماءِ، كان معلومًا أن أبينَ البيانِ بيانُه، وأفضلَ الكلامِ كلامُه، وأنَّ قدرَ فضلِ بيانِه جل ذكرُه على بيانِ (١) جميعِ خلقِه، كفضلِه على جميعِ عبادِه.

فإن كان ذلك كذلك، وكان غيرَ مُبِينٍ منا عن نفسِه مَن خاطَب غيرَه بما لا يَفْهَمُه عنه المخاطَبُ، كان معلومًا أنه غيرُ جائزٍ أن يُخاطِبَ جل ذكرُه أحدًا مِن خلقِه إلا بما يَفْهَمُه المخاطَبُ، ولا يُرْسِلَ إلى أحدٍ منهم رسولًا برسالةٍ إلا بلسانٍ وبيانٍ يَفْهَمُه المُرْسَلُ إليه؛ لأن [المُخاطَبَ و] (٢) المُرْسَلَ إليه إن لم يَفْهَمْ ما خُوطِبَ به وأُرْسِل به إليه، فحالُه قبلَ الخطابِ وقبلَ مَجيءِ الرسالةِ إليه وبعدَه سَواءٌ، إذ لم يُفِدْه الخطابُ والرسالةُ شيئًا كان به قبلَ ذلك جاهلًا، واللَّهُ جل ذكرُه يَتَعالَى عن أن يُخاطِبَ خِطابًا أو يُرْسِلَ رسالةً لا تُوجِبُ فائدةً لمن خُوطِب أو أُرْسِلَت إليه؛ لأن ذلك فينا مِن فعلِ أهلِ النقصِ والعَبَثِ، واللَّهُ تعالى عن ذلك مُتَعالٍ، ولذلك قال جل ثناؤُه في مُحْكَمِ تَنْزيلِه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤]. وقال لنبيِّه محمدٍ ﷺ: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٦٤]. فغيرُ جائزٍ أن يَكونَ به (٣) مُهْتَدِيًا مَن كان بما (٤) يُهْدَى إليه جاهلًا.

فقد تبَيَّنَ إذن - بما عليه دلَّلْنا مِن الدَّلالةِ - أن كلَّ رسولٍ للَّهِ جل


(١) سقط من: ص، ت ١.
(٢) سقط من: ص.
(٣) سقط من: ر.
(٤) في م: "بها".