للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إجماعَه على أن ذلك تأويلُه، لقلتُ: أولى التأويلَين بتأويلِ الآيةِ ما قاله الضَّحاكُ، من أن اللَّهَ عنَى بقولِه: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾: من حيثُ أفاض إبراهيمُ؛ لأن الإفاضةَ من عرفاتٍ لا شَكَّ أنها قبلَ الإفاضةِ من جَمْعٍ، وقبلَ وجوبِ الذِّكْرِ عندَ المشعرِ الحرامِ. وإذ كان ذلك لا شكَّ كذلك، وكان اللَّهُ ﷿ إنما أمَر بالإفاضةِ من الموضعِ الذي أفاض منه الناسُ بعدَ انقضاءِ ذِكْرِ الإفاضةِ من عرفاتٍ، وبعدَ أمْرِه بذكرِه عندَ المشعرِ الحرامِ [بقولِه: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾] (١). ثم قال بعدَ ذلك: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ - كان معلومًا بذلك أنه لم يأمُرْ بالإفاضةِ إلا من الموضعِ الذي لم يُفِيضوا منه دونَ الموضعِ الذي قد أفاضوا منه، إذ (٢) كان الموضعُ الذي قد أفاضوا منه، فانقضَى وقتُ الإفاضةِ منه، لا وجهَ لأنْ يقالَ: أفِضْ منه. فإذ كان لا وجهَ لذلك، وكان غيرُ جائزٍ أن يأمُرَ اللَّهُ - جل وعز - بأمرٍ لا معنى له، كانت بيِّنةً صحةُ ما قاله من التأويلِ في ذلك، وفسادُ ما خالَفه، لولا الإجماعُ الذي وصَفناه، وتظاهرُ الأخبارِ بالذي ذكَرنا عمن حكَينا قولَه من أهلِ التأويلِ.

فإن قال لنا قائلٌ: وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه، والناسُ جماعةٌ، وإبراهيمُ واحدٌ، واللَّهُ تعالى ذكرُ يقولُ: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾؟

قيل: إن العربَ تفعَلُ ذلك كثيرًا، فَتدُلُّ بذكرِ الجماعةِ على الواحدِ [وبذكرِ الواحدِ على الجماعةِ] (٣)، ومن ذلك قولُ اللَّهِ ﷿: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ


(١) سقط من: م، ت ١، ت ٢، ت ٣.
(٢) في م، ت ١، ت ٢، ت ٣: "و".
(٣) سقط من: م، وفي ت ١: "وبذكر الواحد"، وفي ت ٣: "وبذكر الواحد على الواحد".