للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال آخرون: بل المُحْكَمُ من آي القرآنِ ما عرَف العلماءُ تأويلَه، وفَهِمُوا معناه وتفسيرَه. والمتشابِهُ ما لم يكنْ لأحدٍ إلى علمِه سبيلٌ مما اسْتَأْثَرَ اللهُ بعلمِه دونَ خلقِه، وذلك نحوُ الخبرِ عن وقتِ (١) مَخْرَجِ عيسى ابن مريمَ، ووقتِ طلوعِ الشمسِ من مغرِبِها، وقيامِ الساعةِ، وفناءِ الدنيا، وما أشبهَ ذلك، فإن ذلك لا يَعْلَمُه أحدٌ. وقالوا: إنما سَمَّى اللَّهُ من أيِ الكتابِ المتشابهَ الحروفَ المقطَّعة التي في أوائلِ بعضِ سورِ القرآنِ، من نحوِ ﴿لم]، و ﴿المص﴾ [الأعراف: ١]، و ﴿الر﴾ [الرعد: ١] و ﴿الر﴾ وما أشْبَه ذلك؛ لأنهنَّ متشابهاتٌ في الألفاظِ، وموافقاتٌ حروفَ حسابِ الجُمَّلِ (٢)، وكان قومٌ من اليهودِ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ طمِعوا أَن يُدْرِكُوا مِن قِبَلها معرفةَ مدةِ الإسلامِ وأهلِه، ويَعْلَمُوا نهايةً أُكْلِ (٣) محمدٍ وأُمَّتِه، فأَكذَبَ اللهُ أُحْدوثَتهم بذلك، وأَعلَمهم أن ما ابْتَغَوْا علمه من ذلك من قِبَلِ هذه الحروفِ المتشابهةِ لا يُدْرِكُونه، ولا مِن قِبَلِ غيرِها، وأن ذلك لا يَعلمُه إلا اللهُ. وهذا قولٌ ذُكر عن جابرِ بن عبدِ اللهِ بن رِئابٍ (٤) أن هذه الآيةَ نزَلتْ فيه، وقد ذكَرْنا الروايةَ بذلك عنه وعن غيرِه ممن قال نحوَ مقالتِه في تأويلِ ذلك في تفسيرِ قولِه: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ١، ٢].

وهذا القولُ الذي ذكَرْناه عن جابر بن عبدِ اللهِ أشبه بتأويلِ الآيةِ، وذلك أَنَّ جميعَ ما أَنزلَ اللهُ ﷿ من آيِ القرآنِ على رسولِه ﷺ فإنّما أنزَله عليه بيانًا له ولأمتِه، وهدًى للعالمين، وغيرُ جائزٍ أن يكونَ فيه ما لا حاجةَ بهم إليه، ولا أن يكونَ


(١) سقط من: ت ٢.
(٢) ينظر ما تقدم في ١/ ٢١٠.
(٣) في م: "أجل". والأُكلُ: الرزق، والحظُّ من الدنيا. ويقال: انقطع أُكْلُه: إذا مات. ينظر أساس: البلاغة، واللسان (أ ك ل).
(٤) في م: "رباب". وينظر أسد الغابة، ١/ ٣٠٦، ٣٠٧، والإصابة ١/ ٤٣٣.