للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ جَرَى عَلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مَعَ قَطْعِ النَّصِّ عَنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، فَهُوَ تَقْلِيدٌ مُطْلَقٌ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَقَالَ: الْإِنْفَاقُ يَقْطَعُ دَاءَ الْبُخْلِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ يَقْطَعُ دَاءَ الْجُبْنِ، وَإِدْمَانُ الذِّكْرِ لَا يَقْطَعُ شَيْئًا مِنْ هَذَيْنِ الدَّاءَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا، بَلْ لَا يُجْدِي إِلَّا حَدُّ الْمَقْصُودِ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى غَفْلَتِهِ عَنْ مَعْنَى الذِّكْرِ وَحَقِيقَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ جَمِيعُ الْعِلَلِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إِلَّا بِالذِّكْرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ سُلْطَانُ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ بَذْلُ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَغَيْرِهَا، وَبِدُونِهِ إِنَّمَا هُوَ خَسَارَةُ مَالٍ وَضَيَاعُ نَفْسٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِمَا، حَيْثُ لَا تَقَرُّبَ بِهِمَا.

وَلِهَذَا قَالَ شَارِحٌ: وَلَعَلَّ الْخَيْرِيَّةَ وَالْأَرْفَعِيَّةَ فِي الذِّكْرِ لِأَجْلِ أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ وَالْمُقَاتَلَةِ مَعَهُمْ، إِنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ وَوَسَائِطُ يَتَقَرَّبُ الْعِبَادُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: ١٥٢] وَأَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، الْحَدِيثَ. وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَمَا دَخَلَ فِي مَقَامِ الذِّكْرِ: ضَيَّعْتُ قِطْعَةً مِنَ الْعُمْرِ فِي الْوَجِيزِ وَالْوَسِيطِ وَالْبَسِيطِ، بَلْ يَعُدُّ الْعَارِفُونَ الْغَفْلَةَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّدَّةِ وَلَوْ خَطْرَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالَ:

وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي

ثُمَّ لَا ارْتِيَابَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا أَرْكَانُ الدِّينِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا، وَهِيَ الْقُطْبُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا رَحَى الْإِسْلَامِ، وَهِيَ الشُّعْبَةُ الَّتِي أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَلْ هُوَ الْكُلُّ وَلَيْسَ غَيْرُهُ {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: ١٠٨] ، إِذِ الْوَحْيُ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْوَحْيِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَسَائِرُ التَّكَالِيفِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِأَمْرٍ مَا تَجِدُ الْعَارِفِينَ وَأَرْبَابَ الْقُلُوبِ وَالْيَقِينِ يَسْتَأْثِرُونَهَا عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ، لَمَّا رَأَوْا فِيهَا خَوَاصَّ لَيْسَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا الْوِجْدَانُ وَالذَّوْقُ اهـ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ عَلِيَّ بْنَ مَيْمُونٍ الْمَغْرِبِيَّ لَمَّا تَصَرَّفَ فِي الشَّيْخِ عُلْوَانَ الْحَمَوِيِّ، وَهُوَ كَانَ مُفْتِيًا مُدَرِّسًا، فَنَهَاهُ عَنِ الْكُلِّ، وَأَشْغَلَهُ بِالذِّكْرِ فَطَعَنَ الْجُهَّالُ فِيهِ بِأَنَّهُ أَضَلَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ، وَمَنَعَهُ عَنْ نَفْعِ الْأَنَامِ، ثُمَّ بَلَغَ السَّيِّدَ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَحْيَانًا، فَمَنَعَهُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ زِنْدِيقٌ يَمْنَعُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ قُطْبُ الْإِيمَانِ، وَغَوْثُ الْإِيقَانِ، لَكِنْ طَاوَعَهُ الْمُرِيدُ إِلَى أَنْ حَصَلَ لَهُ الْمَزِيدُ، وَانْجَلَتْ مِرْآةُ قَلْبِهِ، وَحَصَلَ لَهُ مُشَاهَدَةُ رَبِّهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا فَتَحَ الْمُصْحَفَ فُتِحَ عَلَيْهِ الْفُتُوحَاتُ الْأَزَلِيَّةُ وَالْأَبَدِيَّةُ، وَظَهَرَ لَهُ كُنُوزُ الْمَعَارِفِ وَالْعَوَارِفِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: أَنَا مَا كُنْتُ أَمْنَعُكَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَمْنَعُكَ عَنْ لَقْلَقَةِ اللِّسَانِ وَالْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَقَفَهُ) : بِالتَّخْفِيفِ (عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ) : يَعْنِي: وَالْبَاقُونَ رَفَعُوهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَضُرُّ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ وَصَلَ لَا لِمَنْ وَقَفَ؛ لِأَنَّ مَعَ الْأَوَّلِ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِالْوَصْلِ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَوَقْفُهُ كَرَفْعِ غَيْرِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>