للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٦٠٥٥ - وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ جَعَلَ يَأْلَمُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَأَنَّهُ يُجَزِّعُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا كُلُّ ذَلِكَ؟ ، لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ، فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ، قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ. وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي، فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَمِنْ أَجْلِ أَصْحَابِكَ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

٦٠٥٥ - (وَعَنِ الْمِسْوَرِ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (ابْنِ مَخْرَمَةَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَفَتْحِ رَاءٍ، هُوَ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وُلِدَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَقَدِمَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقُبِضَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ ثَمَانِي سِنِينَ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَفِظَ عَنْهُ، وَكَانَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَتَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ تَرْجَمَتِهِ. (قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ (جَعَلَ) أَيْ: طَفِقَ عُمَرُ (يَأْلَمُ) أَيْ: يُظْهِرُ أَثَرَ أَلَمِهِ بِالْأَنِينِ وَنَحْوِهِ (فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَأَنَّهُ) أَيِ: ابْنَ عَبَّاسٍ (يُجَزِّعُهُ) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ يَنْسِبُهُ إِلَى الْجَزَعِ وَيَلُومُهُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ مَا يُسَلِّيهِ بِمَا يُزِيلُ عَنْهُ الْجَزَعَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: ٢٣] أَيْ أُزِيلَ عَنْهُمُ الْفَزَعُ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَائِلِ وَمَقُولِهِ: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَا كُلُّ ذَلِكَ) ؟ بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى لَا تُبَالِغُ فِيمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْجَزَعِ. قَالَ مَيْرَكُ وَفِي نُسْخَةٍ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ، وَالَّذِي فِي الْأَصْلِ رِوَايَةُ الْكُشْمِهَنِيِّ، وَلِبَعْضِهِمْ: وَلَا كَانَ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ دُعَاءٌ أَيْ لَا يَكُونُ مَا تَخَافُهُ، أَوْ لَا يَكُونُ الْمَوْتُ بِتِلْكَ الطَّعْنَةِ (لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ) ، أَيْ لِقَوْلِهِ: (لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ) . (ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، أَيْ حَيْثُ جَعَلَكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ثُمَّ صَحِبْتَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: أَيَّامَ خِلَافَتِكَ (فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ) ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْعَدَالَةِ وَإِتْقَانِ السِّيَاسَةِ (وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ) أَيْ: فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ (لَتُفَارِقَنَّهُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ لَفَارَقْتَهُمْ (وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ) ، أَيْ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَنْكَ رَاضٍ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنْهُ فَأَنْتَ مُبَشَّرٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: ٢٧ - ٢٨] وَالْمَوْتُ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا لِلِقَاءِ الْمَوْلَى فِي الْمَقَامِ الْأَعْلَى. (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ نُونٍ أَيْ: مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ (مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ) أَيْ: تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ بَلْ بِجَذْبَةٍ مِنْهُ، فَلَا أُنْكِرُ كَرَمَهُ، بَلْ أَشْكُرُهُ وَأَحْمَدُهُ. (وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، إِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلِيَّ) . أَيْ حَيْثُ وَفَّقَنِي عَلَى تَقْدِيمِهِ وَمُسَاعَدَتِهِ فِي تَقْوِيمِهِ، وَلَعَلَّ إِعْرَاضَهُ عَنْ رِضَا النَّاسِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى رِضَا اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: ٦٢] وَلِلْإِيمَاءِ أَنَّ رِضَاهُمْ أَيْضًا مِنْ أَثَرِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ (وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي) ، أَيْ فَزَعِي الْمُتَوَهَّمِ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ مَوْتِي (فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَمِنْ أَجْلِ أَصْحَابِكَ) : عَطْفٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، أَيْ مِنْ جِهَةِ أَنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ وُقُوعِ الْفِتَنِ بَيْنَكُمْ لَمَّا كَانَ كَالْبَابِ يَسُدُّ الْمِحَنَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ أَخَافُ أَيْضًا عَلَى نَفْسِي، وَلَا آمَنُ مِنْ عَذَابِ رَبِّي، لِأَنَّهُ (وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مَا يَمْلَؤُهَا (ذَهَبًا) : حَتَّى يَطْلُعَ وَيَسِيلَ (لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ) . أَيِ اللَّهَ أَوْ عَذَابَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ خَشْيَةِ التَّقْصِيرِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْفِتْنَةِ بِمَدْحِهِمْ، كَذَا فِي " فَتْحِ الْبَارِي ".

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجَّحَ جَانِبَ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ لِمَا أُشْعِرَ مِنْ فِتَنٍ تَقَعُ بَعْدَهُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَزِعَ جَزَعًا عَلَيْهِمْ وَتَرَحُّمًا لَهُمْ، وَمِنَ اسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: ١١٨] وَكَانَ جَانِبُ الْخَوْفِ عَلَيْهِ غَالِبًا، فَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَانْكِسَارًا، وَلِذَلِكَ نَسَبَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ إِلَى مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْضَالِهِ، وَفِي " الِاسْتِيعَابِ ": إِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ احْتُضِرَ قَالَ وَرَأَسُهُ فِي حِجْرِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: ظَلُومٌ لِنَفْسِي غَيْرَ أَنِّيَ مُسْلِمٌ أُصَلِّي صَلَاتِي كُلَّهَا وَأَصُومُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَحَدِ عَاشِرَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَبَاقِي الْعَشَرَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>