للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْخَلْقِ فِي تَصْيِيرِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوِلَادَةِ تَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ هَذَا السَّقْطِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَبَانَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَأَلْقَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ نُطْفَةً فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى، فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقُهُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا، وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ بِدُونِ الْوَلَدِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَمًا جَامِدًا أَوْ لَحْمًا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ مَعَ الشَّكِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، فِي قَوْلٍ قَالَ: يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ فَإِنْ ذَابَ فَهُوَ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ، وَفِي قَوْلٍ قَالَ: يُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ، وَالْقَوْلَانِ فَاسِدَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.

وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مِنِّي.

صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ إقْرَارٌ بِالْوَلَدِ، إذْ الْحَمْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَلَدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مِنِّي أَوْ قَالَ: هِيَ حُبْلَى مِنِّي أَوْ قَالَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ وَلَدٍ فَهُوَ مِنِّي ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَإِنَّمَا كَانَ رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ الْأَمَةُ، فَإِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَمْلِهَا وَالْحَمْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَلَدِ وَذَلِكَ يُثْبِتُ لَهَا حُرِّيَّةَ الِاسْتِيلَادِ.

فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَصْدِيقِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْحُرِّيَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ: مَا فِي بَطْنِهَا مِنِّي وَلَمْ يَقُلْ مِنْ حَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: كَانَ رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا فِي بَطْنِهَا يَحْتَمِلُ الْوَلَدَ وَالرِّيحَ فَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ فَلَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ.

وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى: إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي فَأَسْقَطَتْ سِقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ مِنْهُ هَذَا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إنْ كَانَتْ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي أَيْ إنِّي وَطِئْتُهَا، فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ وَطْءٍ فَهُوَ مِنِّي.

فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بِوَلَدٍ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَئِذٍ فَثَبَتَ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى الْوِلَادَةَ، فَشَهِدَتْ عَلَيْهَا امْرَأَةٌ، لَزِمَهُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتِهِ عَلَى الْوِلَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فَإِنْ جَاءَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ وُجُودَ هَذَا الْحَمْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ بِالشَّكِّ.

[فَصْلٌ فِي سَبَب الِاسْتِيلَادِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا سَبَبُ الِاسْتِيلَادِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: سَبَبُهُ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ فِي الْحَالِ هُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ ﷺ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّسْبِيبِ أَيْ وَلَدُهَا سَبَبُ عِتْقِهَا.

غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّسْبِيبِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا مُطْلَقًا.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ بِلَا شَكٍّ وَإِنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ، وَحُرِّيَّةُ الْجُزْءِ تَقْتَضِي حُرِّيَّةَ الْكُلِّ إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ رَقِيقًا وَالْجُزْءُ حُرًّا، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَقَ الْأُمُّ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا لَا تُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَصَلَ مِنْهَا، وَحُرِّيَّتُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْأُمِّ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْجَنِينَ فَقُلْنَا بِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَتَأَخُّرِ الْحَقِيقَةِ إلَى بَعْدِ الْمَوْتِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ الْمُعَلَّقَ أَوْجَبَ الْجُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ لِاخْتِلَاطِ الْمَاءَيْنِ وَصَيْرُورَتِهِمَا شَيْئًا وَاحِدًا وَانْخِلَاقِ الْوَلَدِ مِنْهُ، فَكَانَ الْوَلَدُ جُزْءًا لَهُمَا، وَبَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا إنْ لَمْ يَبْقَ جُزْءًا لَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَقَدْ بَقِيَ حُكْمًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلِهَذَا تُنْسَبُ كُلُّ الْأُمِّ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ يُقَالُ: أُمُّ وَلَدِهِ.

فَلَوْ بَقِيَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لَثَبَتَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ فَإِذَا بَقِيَتْ حُكْمًا ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ وَضْعُ مَأْخَذِ الْحُجَجِ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ ﵁ فَقَالَ: أَبَعْدَمَا اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ تُرِيدُونَ بَيْعَهُنَّ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا السَّبَبِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ: السَّبَبُ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ شَرْعًا، وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ ثَبَتَ شَرْعًا أَوْ حَقِيقَةً.

وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا تَزَوَّجَ جَارِيَةً إنْسَانٌ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَلَكهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَقَدْ ثَبَتَ فَتَحَقَّقَ السَّبَبُ، إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِ الْمِلْكِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>