للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنَّ قَبْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ وَجَدَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ عَيْبًا وَهُوَ عَيْنٌ كَمَا إذَا اشْتَرَى قُلْبَ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ إنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالرَّدُّ صَحِيحٌ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَارِقَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَرَفْعًا لِلْعَقْدِ عَنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِعَادَةُ الْمَالِكِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَبْضِ، وَالرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ ثَالِثٍ، وَحَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقَبْضُ يُعْتَبَرُ ثَالِثًا فَيُجْعَلُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ.

وَأَمَّا التَّقَابُضُ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ بِأَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَوْ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ وَعَيَّنَا الْبَدَلَيْنِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا، فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : شَرْطٌ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، عِنْدَنَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ، وَعِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» ، وَبِقَوْلِهِ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ» ؛ وَلِأَنَّ الِافْتِرَاقَ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ لَا يَخْلُو عَنْ الرِّبَا لِجَوَازِ أَنْ يَقْبِضَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ لِلْمَقْبُوضِ فَضْلًا عَلَى غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَأَشْبَهَ فَضْلَ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِوُجُوبِ التَّقَابُضِ وَلِهَذَا صَارَ شَرْطًا فِي الصَّرْفِ كَذَا هَذَا.

(وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: ٢٧٥] وَغَيْرِ ذَلِكَ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ بِدُونِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، وَاسْتَثْنَى التِّجَارَةَ عَنْ تَرَاضٍ فَيَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ فِي التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّقَابُضِ؛ لِأَنَّ أَكْلَ مَالِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: «يَدًا بِيَدٍ» غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَإِنْ حَمْلَهَا عَلَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا آلَةُ الْقَبْضِ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا آلَةُ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ سَبَبُ التَّعْيِينِ.

وَعِنْدَنَا التَّعْيِينُ شَرْطٌ فَسَقَطَ احْتِجَاجُهُ بِالْحَدِيثِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى مَا قُلْنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الصَّرْفِ: إنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ هُوَ التَّعْيِينُ لَا نَفْسُ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَشَرَطْنَا التَّقَابُضَ لِلتَّعْيِينِ لَا لِلْقَبْضِ، وَهَهُنَا التَّعْيِينُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: الْمَقْبُوضُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا قُلْنَا: هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ تَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ.

فَإِنْ شُرِطَ الْخِيَارُ فِيهِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذَا الْعَقْدِ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَخِيَارُ الْعَقْدِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ تَقَابُضٍ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَتَّى افْتَرَقَا تَقَدَّرَ الْفَسَادُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِدَلَائِلِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.

(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ الْأَجَلِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا.

فَإِنْ شَرَطَاهُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ مُسْتَحَقٌّ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَالْأَجَلُ يُعْدِمُ الْقَبْضَ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْأَجَلِ أَجَلَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَنَقَدَ مَا عَلَيْهِ ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ تَقَابُضٍ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهَاتَانِ الشَّرِيطَتَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَرْعِيَّتَانِ لِشَرِيطَةِ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ الْقَبْضِ وَالْأُخْرَى فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.

وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتَانِ فِي هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ فَلَا يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ التِّبْرُ وَالنُّقْرَةُ وَالْمَصُوغُ.

وَلَا يَثْبُتُ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَضْرُوبَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ إذْ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ عَلَى عَيْنِ الْمَرْدُودِ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وِلَايَةَ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَ يَرُدُّهُ فَيُطَالِبُهُ بِآخَرَ هَكَذَا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَكَذَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ثَمَنُ الصَّرْفِ عَيْنًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِعَيْنٍ أُخْرَى فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَيَثْبُتُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا

<<  <  ج: ص:  >  >>