للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَكَرْنَا حَالَ مَا قَبْلَ الْأَخْذِ وَأَمَّا حَالُ مَا بَعْدَهُ فَلَهَا بَعْدَ الْأَخْذِ حَالَانِ فِي حَالٍ هِيَ أَمَانَةٌ وَفِي حَالٍ هِيَ مَضْمُونَةٌ.

أَمَّا حَالَةُ الْأَمَانَةِ: فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْمُودَعِ وَأَمَّا حَالَةُ الضَّمَانِ: فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ لِنَفْسِهِ مَغْصُوبٌ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ جِهَةَ الْأَمَانَةِ إنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ الضَّمَانِ إمَّا بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْيَمِينِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ فَجَاءَ صَاحِبُهَا وَصَدَّقَهُ فِي الْأَخْذِ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْأَمَانَةِ قَدْ ثَبَتَتْ بِتَصْدِيقِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنْ أَشْهَدَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِشْهَادِ ظَهَرَ أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَظَهَرَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَوْ أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَخَذَهُ لَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ بِهَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْأَخْذِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَخْذٌ بِالْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَكِنْ مَعَ الْحَلِفِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ بِأَنْ أَخَذَهُ لِصَاحِبِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْإِشْهَادِ فَإِذَا لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُ الْأَخْذِ لِصَاحِبِهِ فَبَقِيَ الْأَخْذُ سَبَبًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْأَصْلِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ عَمَلَ كُلِّ إنْسَانٍ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى﴾ [النجم: ٣٩] وقَوْله تَعَالَى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦] فَكَانَ أَخْذُهُ اللُّقَطَةَ فِي الْأَصْلِ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهَا وَأَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِنَفْسِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ غَصْبٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَخْذُ لِصَاحِبِهَا بِالْإِشْهَادِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ لِنَفْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.

وَلَوْ أَخَذَ اللُّقَطَةَ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا رَفَعَهَا وَلَمْ يَبْرَحْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى وَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا يَضْمَنُ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ مُسْتَغْنٍ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ ذَهَبَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا مِنْ مَكَانِهَا فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهَا بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ فَإِذَا رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَقَدْ ضَيَّعَهَا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ إذَا أَلْقَاهَا الْمُودَعُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ حَتَّى ضَاعَتْ.

(وَلَنَا) أَنَّهُ أَخَذَهَا مُحْتَسِبًا مُتَبَرِّعًا لِيَحْفَظَهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَإِذَا رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَقَدْ فَسَخَ التَّبَرُّعَ مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا أَصْلًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ الْحِفْظُ وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ بِهِ وَقَدْ رَدَّهُ بِالرَّدِّ إلَى مَكَانِهَا فَارْتَدَّ وَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، هَذَا إذَا كَانَ أَخَذَهَا لِصَاحِبِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَضَاعَتْ وَصَدَّقَهُ صَاحِبُهَا فِيهِ أَوْ كَذَّبَهُ لَكِنَّ الْمُلْتَقِطَ قَدْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْهِدْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِصَاحِبِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ تَفْسِيرُ الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقْطَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُلْتَقِط بِمَسْمَعٍ مِنْ النَّاسِ إنِّي الْتَقَطْت لُقَطَةً أَوْ عِنْدِي لُقَطَةٌ فَأَيُّ النَّاسِ أَنْشَدَهَا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ أَوْ يَقُولَ: عِنْدِي شَيْءٌ فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَسْأَلُ شَيْئًا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ.

فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَقَالَ الْمُلْتَقِطُ قَدْ هَلَكَتْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ لُقَطَاتٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ وَاللُّقَطَةِ مُنَكَّرٌ إنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلُقَطَةٍ وَاحِدَةٍ لُغَةً لَكِنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهَا كُلُّ الْجِنْسِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا فَرْدٌ مِنْ الْجِنْسِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيفِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُعْتَادِ فَكَانَ هَذَا إشْهَادًا عَلَى الْكُلِّ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.

وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَخَذَهَا غَصْبًا فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ لِقَوْلِهِ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» فَإِذَا عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهَا كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الضَّالَّةَ ثُمَّ أَرْسَلَهَا إلَى مَكَانِهَا الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ اللُّقَطَةِ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>