للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَبْعَثَ عَلَى يَدَيْ عَدْلَيْنِ، وَإِنْ بَعَثَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.

(وَمِنْهَا) أَنْ يُقَدِّمَ الْخُصُومَ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي الْحُضُورِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ؛ لِقَوْلِهِ ﵊: «الْمُبَاحُ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ» وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ؛ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ، فَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، إلَّا الْغُرَبَاءَ إذَا خَاصَمُوا بَعْضَ أَهْلِ الْمِصْرِ إلَيْهِ، أَوْ خَاصَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ خَاصَمَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْمِصْرِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُهُمْ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: قَدِّمْ الْغَرِيبَ، فَإِنَّك إذَا لَمْ تَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا ذَهَبَ وَضَاعَ حَقُّهُ، فَتَكُونُ أَنْتَ الَّذِي ضَيَّعْتَهُ نَدَبَ ﵁ إلَى تَقْدِيمِ الْغَرِيبِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِظَارُ، فَكَانَ تَأْخِيرُهُ فِي الْخُصُومَةِ تَضْيِيعًا لِحَقِّهِ، إلَّا إذَا كَانُوا كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ الْقَاضِي عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَيَخْلِطُهُمْ بِأَهْلِ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ، وَكَذَا تَقْدِيمُ صَاحِبِ الشُّهُودِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الشُّهُودِ وَاجِبٌ.

قَالَ ﵊: «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِ بِهِمْ الْحُقُوقَ» وَلَيْسَ مِنْ الْإِكْرَامِ حَبْسُهُمْ عَلَى بَابِ الْقَاضِي، وَهَذَا إذَا كَانَ وَاحِدًا، فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الرِّجَالَ عَلَى حِدَةٍ، وَالنِّسَاءَ عَلَى حِدَةٍ؛ لِمَا فِي الْخَلْطِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ يَوْمًا عَلَى حِدَةٍ؛ لِكَثْرَةِ الْخُصُومِ فَعَلَ؛ لِأَنَّ إفْرَادَهُنَّ بِيَوْمٍ أَسْتَرُ لَهُنَّ وَمِنْهَا أَنْ لَا يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ، وَبِطُولِ الْجُلُوسِ يَخْتَلُّ النَّظَرُ فِيهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَيَكْفِي الْجُلُوسُ طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَقَدْرَ مَا لَا يَفْتُرُ عَنْ النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعِي عَنْ دَعْوَاهُ؟ ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ وَكَذَا إذَا ادَّعَى دَعْوَى صَحِيحَةً هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دَعْوَى خَصْمِهِ؟ ذَكَرَ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ، حَتَّى يَقُولَ لَهُ الْمُدَّعِي: سَلْهُ عَنْ جَوَابِ دَعْوَايَ.

وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الدَّعْوَى إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ، وَالْقَاضِي لَا يُنْشِئُ الْخُصُومَةَ وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ يَلْحَقُهُ مَهَابَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ فَيَعْجِزُ عَنْ الْبَيَانِ دُونَ سُؤَالِ الْقَاضِي، فَيَسْأَلُ عَنْ دَعْوَاهُ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّفْعَ وَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ زَمَانًا؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ ﵁ فِي كِتَابِ السِّيَاسَةِ: اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ وَأَرَادَ بِهِ مُدَّعِي الدَّفْعَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ عَجَزَ اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْهِلْهُ، وَقَضَى بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ قَضَائِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّفْعِ مُؤَخَّرًا، فَهُوَ مِنْ صِيَانَةِ الْقَضَاءِ عَنْ النَّقْضِ، ثُمَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، إنْ شَاءَ أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ شَاءَ إلَى الْغَدِ، وَإِنْ شَاءَ إلَى بَعْدِ الْغَدِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ، فَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَدَّى بِبَيِّنَةٍ غَائِبَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، بَلْ يَقْضِي لِلْمُدَّعِي.

وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ لِلْقَضَاءِ فِي أَشْهَرِ الْمَجَالِسِ؛ لِيَكُونَ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ، وَهَلْ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا ﵏: يَقْضِي وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: لَا يَقْضِي، بَلْ يَقْضِي فِي بَيْتِهِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْتِيهِ الْمُشْرِكُ، وَالْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ، وَالْجُنُبُ، وَيَجْرِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ كَلَامُ اللَّغْوِ وَالرَّفَثُ وَالْكَذِبُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ، وَتَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَاجِبٌ.

(وَلَنَا) الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ﵃، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ﵃ كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَاجِبٌ، وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ إلَى الصُّلْحِ إنْ طَمَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ ﵎ ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: ١٢٨] فَكَانَ الرَّدُّ إلَى الصُّلْحِ رَدًّا إلَى الْخَيْرِ، وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ ﵁: رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ فَنَدَبَ ﵁ الْقُضَاةَ إلَى رَدِّ الْخُصُومِ إلَى الصُّلْحِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ ضَغِينَةٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ اصْطَلَحَا، وَإِلَّا قَضَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ مِنْهُمْ الصُّلْحَ لَا يَرُدُّهُمْ إلَيْهِ، بَلْ يَنْفُذُ الْقَضِيَّةَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ.

وَهَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ الرِّزْقَ؟ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْكِفَايَةِ، وَلَا كِفَايَةَ لَهُ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ أُجْرَةَ عَمَلِهِ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَالِهِ كَيْ لَا يَطْمَعَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ.

وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَ

<<  <  ج: ص:  >  >>