للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ حَقِيقَةً، حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا، وَقَدْ ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ؛ فَلَمْ يَصِرْ الْقَاذِفُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ قَدْ تَقَرَّرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ.

وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَقَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَمَةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ، وَالْمَقْذُوفُ يَقُولُ: هِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ، وَعَلَى الْمَقْذُوفِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ،.

وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ إنْسَانًا فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْقَاذِفُ: أَنَا عَبْدٌ وَعَلَيَّ حَدُّ الْعَبْدِ، وَقَالَ الْمَقْذُوفُ: أَنْت حُرٌّ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ الْأَحْرَارِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَذَفَ أُمَّ رَجُلٍ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ أُمَّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً - جَلَدَ الْقَاذِفَ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ يَثْبُتَانِ بِالْبَيِّنَةِ فَعِلْمُ الْقَاضِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ، وَالْإِحْصَانُ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ بِسَبَبِ وُجُوبِ هَذَا الْحَدِّ؛ فَلَأَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي - حَبَسَهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ الْقَذْفُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْذُوفُ أُمَّهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالْحَبْسِ، وَإِنْ لَمْ تُقَمْ بَيِّنَتُهُ - أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا أَوْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَ الْكَفِيلَ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁ فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يُعَزِّرُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ مِنْ الْقَاضِي حُكْمٌ بِإِبْطَالِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا التَّعْزِيرَ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِ الْإِحْصَانِ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْقَذْفِ أَوْ زَمَانِهِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ فِي مَكَانِ كَذَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ فِي مَكَان آخَرَ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَوَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِقَذْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ يُخَالِفُ الْقَذْفَ فِي مَكَان آخَرَ وَزَمَانٍ آخَرَ، فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَذْفٍ غَيْرِ الْقَذْفِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّ اخْتِلَافَ مَكَانِ الْقَذْفِ وَزَمَانِهِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَرَّرَ الْقَذْفَ الْوَاحِدَ فِي مَكَانَيْنِ وَزَمَانَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ، وَالْمُعَادُ عَيْنُ الْأَوَّلِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ حَقِيقَةً فَكَانَ الْقَذْفُ وَاحِدًا، فَقَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ، وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - لَا تُقْبَلُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَقْبَلَ وَيُحَدُّ.

(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ اخْتِلَافَ كَلَامِهِمَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ، كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ - أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، كَذَا هَذَا.

(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ مَعَ الْإِقْرَارِ أَمْرَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ إثْبَاتُ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ، وَالْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ كَانَ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مُخْتَلِفًا، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ فَلَا تُقْبَلُ.

وَنَظِيرُهُ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ - فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ لَا الْحَدُّ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لَا اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَنَيْتُ إنْشَاءُ الْقَذْفِ فَكَانَ قَاذِفًا لَهَا لِلْحَالِ، وَهِيَ لِلْحَالِ زَوْجَتُهُ، وَقَذْفُ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ، وَقَوْلُهُ: قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا، إقْرَارٌ مِنْهُ بِقَذْفٍ كَانَ مِنْهُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ، وَهِيَ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً قَبْلَ التَّزَوُّجِ، وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا اللِّعَانَ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فِي القذف]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى: الْمَقْذُوفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلَا خُصُومَةَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، فَكَانَ حَقُّ الْخُصُومَةِ لَهُ، وَهَلْ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>