للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَى ثَنْدُوَتِهَا، وَأَخَذَ حَصَاةً مِثْلَ الْحِمَّصَةِ وَرَمَاهَا بِهَا» .

وَحَفَرَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ لِشُرَاحَة الْهَمْذَانِيَّةِ إلَى سُرَّتِهَا وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ؛ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا بَأْسَ لِكُلِّ مَنْ رَمَى أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ مُهْلِكٌ فَمَا كَانَ أَسْرَعُ إلَى الْهَلَاكِ كَانَ أَوْلَى، إلَّا إذَا كَانَ الرَّامِي ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَرْجُومِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ الرَّحِمِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ وَيُغْنِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ حَنْظَلَةَ - غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ فِي قَتْلِ أَبِيهِ أَبِي عَامِرٍ - وَكَانَ مُشْرِكًا - فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: دَعْهُ يَكْفِيكَ غَيْرُكَ» .

وَأَمَّا حَدُّ الْجَلْدِ: فَأَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، أَمَّا مِنْ جِنَايَةِ الْقَذْفِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا فَكَانَتْ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا.

وَأَمَّا مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ؛ فَلِأَنَّ قُبْحَ الزِّنَا ثَبَتَ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحُرْمَةُ نَفْسِ الشُّرْبِ ثَبَتَتْ شَرْعًا لَا عَقْلًا؛ وَلِهَذَا كَانَ الزِّنَا حَرَامًا فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الشُّرْبِ، وَكَذَا الْخَمْرُ يُبَاحُ عِنْدَ ضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَغَلَبَةِ الشَّبَقِ، وَكَذَا وُجُوبُ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمَكْنُونِ وَلَا نَصَّ فِي الشُّرْبِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْقَذْفِ فَقَالُوا: إذَا سَكِرَ - هَذَى، وَإِذَا هَذَى - افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ - فِي حَدِّ الزِّنَا فِي حَدِّ الزِّنَا ﴿وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [النور: ٢] قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: أَيْ بِتَخْفِيفِ الْجَلَدَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ الْقَذْفِ أَخَفَّ الضَّرْبَيْنِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ وُجُودَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي - أَنَّهُ انْضَافَ إلَيْهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ فَجَرَى فِيهِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ وَيُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ عَلَى الْعِقَابَيْنِ وَلَا عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، بَلْ يُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ السَّوْطَ بَعْدَ الضَّرْبِ بَلْ يُرْفَعُ؛ لِأَنَّ الْمَدَّ بَعْدَ الضَّرْبِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى؛ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْحَدِّ، وَلَا يَمُدُّ الْجَلَّادُ يَدَهُ إلَى مَا فَوْقَ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ فِيهِ الْهَلَاكُ أَوْ تَمْزِيقُ الْجِلْدِ، وَلَا يَضْرِبُ بِسَوْطٍ لَهُ ثَمَرَةٌ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى، فَيَصِيرُ كُلُّ ضَرْبَةٍ بِضَرْبَتَيْنِ؛ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَلَّادُ عَاقِلًا بَصِيرًا بِأَمْرِ الضَّرْبِ، فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً بَيْنَ ضَرْبَتَيْنِ لَيْسَ بِالْمُبَرِّحِ وَلَا بِاَلَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ مَسٌّ، وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَيُضْرَبُ عَلَى إزَارٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا، وَمَعْنَى الشِّدَّةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّجْرِيدِ، وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ يُجَرَّدُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ.

وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ضَرْبَ الشُّرْبِ أَخَفُّ مِنْ ضَرْبِ الزِّنَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ آيَةِ التَّخْفِيفِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مَرَّةً فِي الضَّرْبِ، فَلَوْ خَفَّفَ فِيهِ ثَانِيًا بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ - لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ الزَّجْرُ، وَلَا يُجَرَّدُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ مُحْتَمَلٌ فَيُرَاعَى فِيهِ التَّخْفِيفُ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ، كَمَا رُوعِيَ فِي أَصْلِ الضَّرْبِ، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ.

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُنْزَعُ عَنْهَا ثِيَابُهَا إلَّا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَتُضْرَبُ قَاعِدَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ فِي الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ يَقَعُ إهْلَاكًا لِلْعُضْوِ أَوْ تَمْزِيقًا أَوْ تَخْرِيقًا لِلْجِلْدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، فَيُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ وَالرَّأْسَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.

وَلَا يُقَامُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ، وَفِي إقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِ تَرْكُ تَعْظِيمِهِ، يُؤَيِّدُهُ أَنَّا نُهِينَا عَنْ سَلِّ السُّيُوفِ فِي الْمَسَاجِدِ، قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبِيَاعَاتِكُمْ وَأَشْرِيَتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَّ السَّيْفِ فِي تَرْكِ التَّعْظِيمِ دُونَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَلَمَّا كُرِهَ ذَلِكَ؛ فَلَأَنْ يُكْرَهَ هَذَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسْجِدِ لَا تَخْلُو عَنْ تَلْوِيثِهِ؛ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ كُلُّهَا فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ - ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٢] وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَا، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>