للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِلْكِ السَّارِقِ فَلَا يُقْطَعُ، وَلِأَنَّ فِي ظُهُورِ السَّرِقَةِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِاحْتِمَالِ التَّكْذِيبِ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ فَيُكَذِّبُهُ فِي إقْرَارِهِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أَنَّهُ يُحَدُّ الْمُقِرُّ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَحْضُرَ الْمَرْأَةُ فَتَدَّعِي شُبْهَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَادَّعَتْ الشُّبْهَةَ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ فَلَوْ سَقَطَ عِنْدَ غَيْبَتِهَا لَسَقَطَ لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهَهُنَا، بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَكَذَّبَ السَّارِقَ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ لَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، بَلْ لِانْعِدَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ.

فَلَمْ يَكُنْ السُّقُوطُ حَالَ الْغَيْبَةِ اعْتِبَارَ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ قَالَ سَرَقْت هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هِيَ، أَوْ قَالَ: سَرَقْتهَا، وَلَا أُخْبِرُك مَنْ صَاحِبُهَا: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَوْقَ غَيْبَتِهِ، ثُمَّ الْغَيْبَةُ لَمَّا مَنَعَتْ الْقَطْعَ عَلَى أَصْلِهِ فَالْجَهَالَةُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا، فَإِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَجْهُولًا تَتَحَقَّقُ الْخُصُومَةُ فَلَا يُقْطَعُ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فَنَقُولُ: - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ، وَمَنْ لَا فَلَا، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ مِنْهُ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ يَدٌ صَحِيحَةٌ.

وَأَمَّا الْمُودِعُ، وَالْمُسْتَعِيرُ، وَالْمُضَارِبُ، وَالْمُبْضِعُ، وَالْغَاصِبُ، وَالْقَابِضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَالْمُرْتَهِنُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ﵃ فِي أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا السَّارِقَ، وَتُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ فِي حَقِّ ثُبُوتِ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ، وَالْإِعَادَةِ إلَى أَيْدِيهِمْ.

وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْقَطْعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ﵏ وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَتِهِمْ، وَعِنْدَ زُفَرَ ﵀: لَا تُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ﵀: لَا يُعْتَبَرُ بِخُصُومَةِ غَيْرِ الْمَالِكِ أَصْلًا لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَلَا فِي حَقِّ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ.

(وَوَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ ﵀: أَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ فِي الْأَصْلِ أَمَّا يَدُ الْمُرْتَهِنِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا يَدُ حِفْظٍ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِضَرُورَةِ الْإِعَادَةِ إلَى يَدِ الْحِفْظِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّسْلِيمِ مِنْ الْمَالِكِ، وَكَذَلِكَ يَدُ الْغَاصِبِ، وَالْقَابِضِ - عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ - وَالْمُرْتَهِنِ يَدُهُمْ يَدُ ضَمَانٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمْ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِإِمْكَانِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ، فَكَانَ ثُبُوتُ وَلَايَةِ الْخُصُومَةِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةٍ يَكُونُ عَدَمًا فِيمَا، وَرَاءَ مَحِلِّ الضَّرُورَةِ؛ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الثُّبُوتِ، وَهِيَ الضَّرُورَةُ، فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ مُنْعَدِمَةً فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَلَا قَطْعَ بِدُونِ الْخُصُومَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ السَّارِقِ كَذَا هَذَا.

(وَلَنَا) أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ الْبَيِّنَةِ: حُجَّةً مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَحَقَّقُ سَرِقَةً مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْخُصُومَةِ، فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ، وَكَوْنُهَا مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ ثَبَتَ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ يُقْطَعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨] ، بِخِلَافِ السَّارِقِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ؛ لِمَا نَذْكُرُ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِخَلَلٍ فِي مِلْكِ الْمَسْرُوقِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَهُنَا لَا خَلَلَ فِي الْعِصْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ، وَهَهُنَا يُقْطَعُ وَلَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ، وَغَابَ الْمُرْتَهِنُ هَلْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ، وَيَقْطَعَهُ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ ﵀ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

(وَجْهُ) رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ وَلَايَةَ الْخُصُومَةِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْمَالِكُ لَيْسَ بِمَسْرُوقٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ لَمْ يَسْرِقْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ.

(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ إنَّمَا شُرِطَتْ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فَتَصِحُّ خُصُومَتُهُ كَمَا تَصِحُّ خُصُومَةُ الْمُرْتَهِنِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ نِيَابَةٍ فَلَمَّا صَحَّتْ الْخُصُومَةُ بِيَدِ النِّيَابَةِ فَيَدُ الْأَصَالَةِ أَوْلَى.

وَلَوْ حَضَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، وَغَابَ الْغَاصِبُ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ، وَيُطَالِبَ بِالْقَطْعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي الْغَصْبِ خِلَافًا، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيهِمَا، وَاحِدًا، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ فَيَقْطَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ، حَتَّى لَوْ قَضَى الدَّيْنَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وَلَايَةُ الْقَبْضِ بِالْفِكَاكِ قَالَ الْقُدُورِيُّ ﵀: وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ لَا يَثْبُتُ لِلرَّاهِنِ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُرْتَهِنِ كَمَا فِي الْمُودِعِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ أَقْوَى مِنْ يَدِ الْمُودِعِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ، وَيَدَ الْمُودِعِ لِغَيْرِهِ.

وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>