للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَفِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ.

مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْهُ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْهَا هُوَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ الْمُقَاتِلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَسَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَذَا كَمَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ يَحْصُلُ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي صَفِّ الْقِتَالِ رَدًّا لِلْمُقَاتَلَةِ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ كَانُوا ثَلَاثًا: ثُلُثٌ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ وَيَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَثُلُثٌ يَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ، وَثُلُثٌ يَكُونُونَ رَدًّا لَهُمْ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ.

وَسَوَاءٌ كَانَ مَرِيضًا أَوْ صَحِيحًا، شَابًّا أَوْ شَيْخًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ.

(فَأَمَّا) الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ، وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ، فَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِتَالُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ أَصْلًا؟ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ؟ وَهِيَ ضَرُورَةُ عُمُومِ النَّفِيرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقُّوا كَمَالَ السَّهْمِ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ «كَانَ لَا يُعْطِي الْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانَ سَهْمًا كَامِلًا مِنْ الْغَنَائِمِ» .

وَكَذَا لَا سَهْمَ لِلتَّاجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إلَّا إذَا قَاتَلَ مَعَ الْعَسْكَرِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَسْكَرُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَكَانَ مُقَاتِلًا، وَلَا سَهْمَ لِلْأَجِيرِ لِانْعِدَامِ الدُّخُولِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، فَإِنْ قَاتَلَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فَقَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ فَلَا شَيْءَ لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) بَيَانُ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ حَالِ الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ الْمُقَاتِلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْمُقَاتِلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِلًا.

(وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَرِوَايَاتُ الْأَخْبَارِ تَعَارَضَتْ فِي الْبَابِ، رُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ «قَسَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ» وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّهُ قَسَمَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ» إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَاضَدَهَا الْقِيَاسُ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ أَصْلٌ فِي الْجِهَادِ، وَالْفَرَسُ تَابِعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ.

أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَ الْجِهَادِ يَقُومُ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَلَا يَقُومُ بِالْفَرَسِ وَحْدَهُ، فَكَانَ الْفَرَسُ تَابِعًا فِي بَابِ الْجِهَادِ وَلَا يَجُوزُ تَنْفِيلُ التَّبَعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي السَّهْمِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إذَا تَعَارَضَتْ، فَالْعَمَلُ بِمَا عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَتِيقُ مِنْ الْخَيْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبِرْذَوْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي النُّصُوصِ بَيْنَ فَارِسٍ وَفَارِسٍ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ سَهْمِ الْفَرَسِ لِحُصُولِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَاَللَّهُ وَصَفَ جِنْسَ الْخَيْلِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠] فَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَازِيَ تَقَعُ الْحَاجَةُ لَهُ إلَى فَرَسَيْنِ، يَرْكَبُ أَحَدَهُمَا وَيُجَنِّبُ الْآخَرَ حَتَّى إذَا أَعْيَا الْمَرْكُوبُ عَنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ تَحَوَّلَ إلَى الْجَنِيبَةِ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ الْإِسْهَامَ لِلْخَيْلِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْخَيْلَ آلَةُ الْجِهَادِ ثُمَّ لَا يُسْهَمُ لِسَائِرِ آلَاتِ الْجِهَادِ، فَكَذَا الْخَيْلُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ كَفَرَسٍ وَاحِدٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ وُرُودَ الشَّرْعِ إنْ كَانَ مَعْلُولًا بِكَوْنِهِ آلَةً مُرْهِبَةً لِلْعَدُوِّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْآلَاتِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ أَصْلُ الْإِرْهَابِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِمَا زَادَ عَلَى فَرَسَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْإِرْهَابِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْفَرَسِ.

ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي حَالِ الْمُقَاتِلِ مِنْ كَوْنِهِ فَارِسًا، أَوْ رَاجِلًا فِي أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ أَمْ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، فَعِنْدَنَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْتَبَرُ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، حَتَّى إنَّ الْغَازِيَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَمَاتَ فَرَسُهُ أَوْ نَفَرَ، أَوْ أَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ بِالْجِهَادِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَقْتَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ، وَدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ بَابِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا مِنْ بَابِ الْمُقَاتَلَةِ.

(وَلَنَا) أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْغَنَائِمَ لِلْمُجَاهِدِينَ، قَالَ ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا﴾ [الأنفال: ٦٩]

<<  <  ج: ص:  >  >>