للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحُكْمُ مَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الصِّبْغَ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ آخَرَ صِبْغًا فَصَبَغَهُ فِيهِ، ثُمَّ غَابَ، وَلَمْ يُعْرَفْ فَهَذَا وَمَا إذَا انْصَبَغَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ سَبِيلٌ.

(وَجْهُ) الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّبْغَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ، فَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَزَالَ عَنْهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ.

(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا غَابَ الْغَاصِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ فِي إدَارَةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَصَلَ لَا بِصِبْغِ أَحَدٍ، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَعُصْفُرًا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَبَغَهُ بِهِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَأْخُذُ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا وَيُبْرِئُ الْغَاصِبَ مِنْ الضَّمَانِ فِي الْعُصْفُرِ وَالثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ عُصْفُرًا مِثْلَهُ ثُمَّ يَصِيرُ كَأَنَّهُ صَبَغَ ثَوْبَهُ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ عُصْفُرَهُ وَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، فَهَذَا رَجُلٌ صَبَغَ ثَوْبًا بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ.

(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ وَاحِدٌ فَالْغَاصِبُ خَلَطَ مَالَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمَالِهِ، وَخَلْطُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ لَا يُعَدُّ اسْتِهْلَاكًا لَهُ بَلْ يَكُونُ نُقْصَانًا، فَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ النُّقْصَانِ، وَلَوْ كَانَ الْعُصْفُرُ لِرَجُلٍ وَالثَّوْبُ لِآخَرَ فَرَضِيَا أَنْ يَأْخُذَاهُ، كَمَا يَأْخُذُ الْوَاحِدُ أَنْ لَوْ كَانَا لَهُ فَلَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَهُنَا اخْتَلَفَ، فَكَانَ الْخَلْطُ اسْتِهْلَاكًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ غَصَبَ إنْسَانٌ عُصْفُرًا وَصَبَغَ بِهِ ثَوْبَ نَفْسِهِ ضَمِنَ عُصْفُرًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ عُصْفُرَهُ وَلَهُ مِثْلٌ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالْعُصْفُرَ تَبَعٌ لَهُ وَالسَّوَادُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُصْفُرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الِاسْتِهْلَاكِ، وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا فِي حُكْمِ ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَجَصَّصَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا قِيلَ لِصَاحِبِهَا: أَعْطِهِ مَا زَادَ التَّجْصِيصُ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبُ جِصَّهُ؛ لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فِيهَا عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ وَهُوَ الْجِصُّ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَغَرِمَ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ التَّجْصِيصُ فِيهَا وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِأَنْ يَأْخُذَ جِصَّهُ، وَلَوْ غَصَبَ مُصْحَفًا فَنَقَطَهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لِصَاحِبِهِ أَخْذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مَا زَادَ النَّقْطُ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوطٍ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْطَ زِيَادَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، فَأَشْبَهَ الصِّبْغَ فِي الثَّوْبِ.

(وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّقْطَ أَعْيَانٌ لَا قِيمَةَ لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ بَقِيَ مُجَرَّدُ عَمَلِهِ وَهُوَ النَّقْطُ وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ النَّقْطَ فِي الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «جَرِّدُوا الْقُرْآنَ» ، وَإِذَا كَانَ التَّجْرِيدُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ كَانَ النَّقْطُ مَكْرُوهًا، فَلَمْ يَكُنْ زِيَادَةً، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْمُصْحَفِ أَخْذُهُ، وَلَوْ غَصَبَ حَيَوَانًا فَكَبِرَ فِي يَدِهِ أَوْ سَمِنَ، أَوْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ نَمَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جَرِيحًا، أَوْ مَرِيضًا فَدَاوَاهُ حَتَّى بَرَأَ وَصَحَّ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا.

وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فَسَقَاهُ الْغَاصِبُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَهَى بُلُوغُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ نَخْلًا أَطْلَعَ فَأَبَّرَهُ وَلَقَّحَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيمَا أَنْفَقَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ حَصَدَ الزَّرْعَ فَاسْتَهْلَكَهُ، أَوْ جَذَّ مِنْ الثَّمَرِ شَيْئًا، أَوْ جَزَّ الصُّوفَ، أَوْ حَلَبَ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَن، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَفَتَلَهُ، أَوْ غَسَلَهُ، أَوْ قَصَّرَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِيهِ، أَمَّا الْفَتْلُ فَإِنَّهُ تَغْيِيرُ الثَّوْبِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ.

(وَأَمَّا) الْغَسْلُ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ الثَّوْبِ وَإِعَادَةٌ لَهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَالصَّابُونُ أَوْ الْحُرُضُ فِيهِ يَتْلَفُ وَلَا يَبْقَى.

وَأَمَّا الْقُصَارَةُ فَإِنَّهَا تَسْوِيَةُ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ، فَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْمَغْصُوبِ زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِيهِ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فِي الْخَمْرِ، وَإِذَا صَارَ خَلًّا حَدَثَ الْخَلُّ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ الْمُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتْلَفُ فِيهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ كَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>