للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَضْمَنُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا آلَةُ اللَّهْوِ وَالْفَسَادِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَالْفَسَادِ يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَاقَ لِإِنْسَانٍ مُسْكِرًا، أَوْ مُنَصَّفًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَلَوْ أَحْرَقَ بَابًا مَنْحُوتًا عَلَيْهِ تَمَاثِيلُ مَنْقُوشَةٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوشٍ بِتَمَاثِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِنَقْشِ التَّمَاثِيلِ؛ لِأَنَّ نَقْشَهَا مَحْظُورٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ قَطَعَ رُءُوسَ التَّمَاثِيلِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَنْقُوشًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تِمْثَالًا بِلَا رَأْسٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، فَكَانَ النَّقْشُ مَنْقُوشًا وَلَوْ أَحْرَقَ بِسَاطًا فِيهِ تَمَاثِيلُ رِجَالٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مُصَوَّرًا؛ لِأَنَّ التِّمْثَالَ عَلَى الْبِسَاطِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ؛ لِأَنَّ الْبِسَاطَ يُوطَأُ، فَكَانَ النَّقْشُ مُتَقَوِّمًا، وَلَوْ هَدَمَ بَيْتًا مُصَوَّرًا ضَمِنَ قِيمَةَ الْبَيْتِ، وَالصُّوَرُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ؛ لِأَنَّ الصُّوَرَ عَلَى الْبَيْتِ لَا قِيمَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَأَمَّا الصِّبْغُ فَمُتَقَوِّمٌ، وَلَوْ قَتَلَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ضَمِنَ قِيمَتَهَا غَيْرَ مُغَنِّيَةٍ؛ لِأَنَّ الْغِنَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ، هَذَا إذَا كَانَ الْغِنَاءُ زِيَادَةً فِي الْجَارِيَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ نُقْصَانًا فِيهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ قِيمَتِهَا، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا إذْ التَّقَوُّمُ يُبْنَى عَلَى الْعِزَّةِ وَالْحَظْرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالِاسْتِيلَاءِ.

(وَأَمَّا) الْمُبَاحُ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ شِئْت قُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى شَرْطِ التَّقَوُّمِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا، أَرْضٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ زَرْعَهَا أَحَدُهُمَا وَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الَّذِي لَمْ يَزْرَعْ نِصْفَ الْبَذْرِ، وَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا فَهَذَا لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ كَانَ الزَّرْعُ نَبَتَ (وَإِمَّا) أَنْ كَانَ لَمْ يَنْبُتْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ نَبَتَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ الْحَشِيشِ بِالْحِنْطَةِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ.

وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْبُتْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا بَقِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ مِمَّا تَلِفَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَإِنْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَطَلَبَ الَّذِي لَمْ يَزْرَعْ الْقِسْمَةَ قَسَمَ، وَأَمَرَ الَّذِي زَرَعَ أَنْ يَقْلَعَ مَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مَشْغُولٌ بِمِلْكِهِ فَيُجْبَرُ عَلَى تَفْرِيغِهِ وَتَضْمِينِهِ نُقْصَانَ الزِّرَاعَةِ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.

(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَتْ مَالَ إنْسَانٍ بَهِيمَةٌ لَا ضَمَانَ عَلَى مَالِكِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، فَكَانَ هَدَرًا وَلَا إتْلَافَ مِنْ مَالِكِهَا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِإِتْلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَلَا عَلَى الْحَرْبِيِّ بِإِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْعَادِلِ إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْبَاغِي، وَلَا عَلَى الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ، فَأَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ، إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْخُوذٌ بِضَمَانِ الْإِتْلَافِ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَةُ الْمُتْلَفِ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِتَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ مَعَ إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ، وَكَذَا كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مُبَاحٌ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ بِإِذْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ، فَلَا يُفِيدُ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ.

وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْغَصْبِ عَلَى مَا مَرَّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ يَضْمَنُ وَيَأْثَمُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِ مَا سِوَى بَنِي آدَمَ: فَالْوَاجِبُ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ وَهُوَ ضَمَانُ الْمِثْلِ إنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ، فَعِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمِثْلِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ، كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>