للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا إذَا كَانَ الْقَطْعُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَوْلَى وَارِثٌ آخَرَ أَوْ غَيْرُهُ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ حُرًّا، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنْ الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ ﵀ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: الْقِصَاصِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَيْنًا بَلْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ (إمَّا) الْقِصَاصُ (وَإِمَّا) الدِّيَةُ، وَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا مَاتَ الْقَاتِلُ يَتَعَيَّنُ الْمَالُ وَاجِبًا، فَإِذَا عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا، وَفِي قَوْلٍ الْقِصَاصُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ، وَإِذَا عَفَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ، وَإِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ١٧٨] .

مَعْنَاهُ فَلْيَتَتَبَّعْ وَلْيُؤَدِّ الدِّيَةَ، أَوْجَبَ ﷾ عَلَى الْقَاتِلِ أَدَاءَ الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الدِّيَةِ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ الْهَلَاكِ، وَإِنَّهُ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى حَقِّهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ بِهَا حَقًّا لَهُ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ.

وَالْمَقْتُولُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ، وَيَنْتَفِعُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرَعَ الْقِصَاصُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَتْلِ عَدُوِّهِ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْمَالِ، فَشُرِعَ ضَمَانًا زَاجِرًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَفِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ قَالَ اللَّهُ ﵎ ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] ، وَالْبَاءُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَالِ فَتُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَخُيِّرَ بَيْنَهُمَا.

(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: ١٧٨] ، وَهَذَا يُفِيدُ تَعَيُّنَ الْقِصَاصِ مُوجَبًا، وَيَبْطُلُ مَذْهَبُ الْإِبْهَامِ جَمِيعًا، أَمَّا الْإِبْهَامُ فَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فَيَصْدُقُ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَحَدُ حَقَّيْنِ لَا يَصْدُقُ الْقَوْلَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ أَوْجَبُ (وَأَمَّا) التَّعْيِينُ فَلِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ بِضَرُورَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابَلُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا كَانَ عَيْنَ حَقِّهِ كَانَتْ الدِّيَةُ بَدَلَ حَقِّهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَعْدِلَ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ إلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَمَنْ عَلَيْهِ حِنْطَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، كَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ ﵊ «الْعَمْدُ قَوَدٌ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى نَحْوِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ؛ وَلِأَنَّ ضَمَان الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ، وَالْقِصَاصُ وَهُوَ الْقَتْلُ الثَّانِي مِثْلُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَ الْأَوَّلِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ الَّذِي يَنُوبُ مَنَابَهُ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقَتْلِ، وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهُ، فَلَا يَكُونُ مِثْلًا لَهُ فَلَا يَصْلُحُ ضَمَانًا لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ ثَبَتَ شَرْعًا تَخْفِيفًا عَلَى الْخَاطِئِ نَظَرًا لَهُ إظْهَارًا لِخَطَرِ الدَّمِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْهَدَرِ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ، وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ بِالْقِصَاصِ، فَبَقِيَ ضَمَانًا أَصْلِيًّا فِي الْبَابِ.

(وَأَمَّا) الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ﷾ ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] هُوَ الْوَلِيُّ لَا الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ ﵎ ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ [البقرة: ١٧٨] ، وَالْقَاتِلُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لَا مَعْفُوٌّ لَهُ، وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى اسْمُهُ ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ١٧٨] فَلْيَتَّبِعْ، وَإِنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ دَخَلَ تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَتَّبِعُ أَحَدًا بَلْ هُوَ الْمُتَّبَعُ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبِعُ هُوَ الْوَلِيُّ، فَكَانَ هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَمَنْ بُذِلَ لَهُ، وَأُعْطِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءُ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ، وَالسُّهُولَةِ فَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعَفْوِ بِمَعْنَى الْفَضْلِ لُغَةً قَالَ اللَّهُ ﷾ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] أَيْ الْفَضْلَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ خُذْ مَا أَتَاكَ عَفْوًا أَيْ فَضْلًا، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ الْقَاتِلِ بِرِضَاهُ، وَقِيلَ الْآيَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>