للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَوْلَ بِالدِّيَةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُلِّ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ (وَرَوَيْنَا) أَنَّهُ ﵊ جَعَلَ «دِيَةَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ» (وَرُوِيَ) " أَنَّ «عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُسْتَأْمَنَيْنِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ» ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ ﵀ أَنَّهُ قَالَ: قَضَى سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ وَسَيِّدُنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ.

وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قَالَ دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ كَمَالِ الدِّيَةِ يَعْتَمِدُ كَمَالَ حَالِ الْقَتِيلِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَهِيَ الذُّكُورَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِصْمَةُ، وَقَدْ وُجِدَ، وَنُقْصَانُ الْكُفْرِ يُؤَثِّرُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا.

[مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ]

(وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْلُ، وَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْقَاتِلِ، ثُمَّ (الدِّيَةُ) الْوَاجِبَةُ عَلَى الْقَاتِلِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَنَوْعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كُلِّهِ، وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، بَعْضَهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ إذَا كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ، وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَمَا لَا فَلَا، فَلَا تَعْقِلُ الصُّلْحَ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ مَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ بَلْ بِعَقْدِ الصُّلْحِ، وَلَا الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ لَا بِالْقَتْلِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، حَتَّى لَوْ صَدَقُوا عَقَلُوا، وَلَا الْعَبْدَ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الدَّفْعُ لَا الْفِدَاءُ.

وَالْفِدَاءُ يَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَلَا الْعَمْدَ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ فَلَمْ تَجِبْ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى طَرِيقِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ ﵊ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ﵊ " وَلَا عَبْدًا " أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعَبْدُ الْمَقْتُولُ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ مَوْلَاهُ، وَهُوَ مَأْذُونٌ مَدْيُونٌ، أَوْ الْمُكَاتَبُ لَا الْعَبْدُ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةَ عَنْ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَقَلْتُ عَنْ فُلَانٍ إذَا كَانَ فُلَانٌ قَاتِلًا، وَعَقَلْتُ فُلَانًا إذَا كَانَ فُلَانٌ مَقْتُولًا.

كَذَا فَرَّقَ الْأَصْمَعِيُّ ثُمَّ الْوُجُوبُ عَلَى الْقَاتِلِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ الدِّيَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ تَجِبُ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً، الْقَاتِلُ وَالْعَاقِلَةُ جَمِيعًا وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ ﷾ ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ [النساء: ٩٢] ، وَمَعْنَاهُ فَلْيَتَحَرَّرْ، وَلْيُودِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْقَاتِلِ لَا لِلْعَاقِلَةِ دَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْلُ.

وَأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْقَاتِلِ لَا مِنْ الْعَاقِلَةِ فَكَانَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ دِيَةً وَاجِبَةً عَلَيْهِ، ثُمَّ دُخُولُ الْقَاتِلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ مَذْهَبُنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: الْقَاتِلُ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ بَلْ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ الْكُلَّ دُونَ الْقَاتِلِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ يَتَحَمَّلُ الْقَاتِلُ دُونَ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا﴾ [الأنعام: ١٦٤] وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: ١٥] وَلِهَذَا لَمْ تَتَحَمَّلْ الْعَاقِلَةُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ، وَلَا مَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، كَذَا هَذَا.

(وَلَنَا) أَنَّهُ ﵊ «قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ» ، وَكَذَا قَضَى سَيِّدُنَا عُمَرُ ﵁ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ﵃ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.

وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَخْذٌ بِغَيْرِ ذَنْبٍ؟ ، فَإِنَّ حِفْظَ الْقَاتِلِ وَاجِبٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظُوا فَقَدْ فَرَّطُوا، وَالتَّفْرِيطُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَقْتُلُ بِظَهْرِ عَشِيرَتِهِ فَكَانُوا كَالْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي الْقَتْلِ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ كَثِيرٌ فَإِلْزَامُ الْكُلَّ الْقَاتِلَ إجْحَافٌ بِهِ فَيُشَارَكُهُ الْعَاقِلَةُ فِي التَّحَمُّلِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ التَّخْفِيفَ؛ لِأَنَّهُ خَاطِئٌ، وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ لَا يَكْثُرُ عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ، وَمَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ.

(وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ ﵀ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ ﵇ «قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ» فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْقَاتِلُ، وَإِنَّا نَقُولُ نَعَمْ، لَكِنْ مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ أَوْجَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ.

ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْعَاقِلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَفْسِيرِ الْعَاقِلَةِ مَنْ هُمْ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنْ الدِّيَةِ.

(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ مُعْتَقًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، فَإِنْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِهِ إنْ كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>