للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَيَاةِ الْمُوصِي، ثُمَّ أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ الْأَوْلَادِ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ مُشَارٍ إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ دَفَعَ الْوَرَثَةُ إلَيْهِ جَارِيَةً مِنْ الْجَوَارِي لَمْ يَسْتَحِقَّ مَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَكُنْ، وَجَبَتْ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَصِيَّةِ إنَّمَا يُنْقَلُ بِالْمَوْتِ فَمَا حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْمَوْتِ فَحَدَثَ الْوَلَدُ عَلَى مِلْكِهِ قَالَ: فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا إلَّا وَاحِدَةً تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يُزَاحِمُهَا فِي تَعَلُّقِ الْوَصِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ ضَرُورَةُ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا، وَقَدْ بَقِيَ لَهَا أَوْلَادٌ حَدَثَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ أُحْرِقَ النَّخْلُ، وَبَقِيَ لَهَا ثَمَرٌ حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ وَلَدَ جَارِيَةٍ، وَثَمَرَةَ نَخْلَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهَا فَيَظْهَرُ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَهُ، فَإِذَا هَلَكَتْ الْأُمُّ بَقِيَ الْحَقُّ فِي الْوَلَدِ عَلَى حَالِهِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيمَا حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْن الْوَصِيَّةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى بِهِ (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ، فَإِنْ خَالَفَ الْإِيجَابَ لَمْ يَصِحَّ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَالَفَهُ لَمْ يَرْتَبِطْ فَبَقِيَ الْإِيجَابُ بِلَا قَبُولٍ فَلَا يَتِمُّ الرُّكْنُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لَكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَرَدَّ الْآخَرُ لَمْ يَصِحَّ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ وَصِيَّةً لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْجَارِيَةِ.

وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا لَوْ قَبِلَا فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَهُوَ قَبُولُهُمَا جَمِيعًا، فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ أَوْصَى بِهَا لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِآخَرَ، فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَرَدَّ الْآخَرُ فَالنِّصْفُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَالنِّصْفُ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْقَبُولِ، فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لَمْ يَتِمَّ الرُّكْنُ فِي حَقِّهِ، بَلْ بَطَلَ الْإِيجَابُ فِي حَقِّهِ فَعَادَ نَصِيبُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي فَصَحَّ الْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْوَصِيَّةِ كَالشَّفِيعَيْنِ إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ الْآخَرِ.

[الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي]

(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِإِيجَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فَلَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ لِكَوْنِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ إذْ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ، وَهَذَا عِنْدَنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فِي الْقُرَبِ صَحِيحَةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ أَجَازَ، وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَافِعٍ، وَهُوَ الَّذِي قَرُبَ إدْرَاكُهُ؛ وَلِأَنَّ فِي وَصِيَّتِهِ نَظَرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ لَزَالَ مِلْكُهُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ ثَوَابٍ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ جَبْرًا شَاءَ، أَوْ أَبَى فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفًا نَافِعًا فِي حَقِّهِ فَأَشْبَهَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ، وَصَوْمَ التَّطَوُّعِ، وَالْجَوَابُ إمَّا إجَازَةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ وَصِيَّةَ ذَلِكَ الصَّبِيِّ كَانَتْ لِتَجْهِيزِهِ، وَتَكْفِينِهِ، وَدَفْنِهِ.

وَوَصِيَّةُ الصَّبِيِّ فِي مِثْلِهِ جَائِزَةٌ - عِنْدَنَا - لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: يَحْصُلُ لَهُ عِوَضٌ، وَهُوَ الثَّوَابُ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ، فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ كَالصَّدَقَةِ مَعَ مَا أَنَّ هَذَا فِي حَدِّ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُثَابُ عَلَى الْوَصِيَّةِ يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ لِلْوَارِثِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.

وَسَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا، وَقَعَتْ بَاطِلَةً، فَلَا تَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِالْإِدْرَاكِ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، أَوْ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ إذْ التِّجَارَةُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَلَوْ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ بِأَنْ قَالَ: إذَا أَدْرَكْتُ، ثُمَّ مِتُّ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ لَمْ تَقَعْ صَحِيحَةً، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَلَوْ أَوْصَيَا، ثُمَّ أُعْتِقَا وَمَلَكَا مَالًا، ثُمَّ مَاتَا: لَمْ تَجُزْ لِوُقُوعِهَا بَاطِلَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ أَضَافَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ بِأَنْ قَالَ: إذَا أُعْتِقْتُ، ثُمَّ مِتَّ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ: صَحَّ فَرْقًا بَيْنَ الْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ عِبَارَةَ الصَّبِيِّ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مُلْحَقَةٌ بِالْعَدَمِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ فَلَمْ تَصِحَّ عِبَارَتُهُ مِنْ الْأَصْلِ، بَلْ بَطَلَتْ.

وَالْبَاطِلُ لَا حُكْمَ لَهُ بَلْ هُوَ ذَاهِبٌ مُتَلَاشٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَأَمَّا عِبَارَةُ الْعَبْدِ: فَصَحِيحَةٌ لِصُدُورِهَا عَنْ عَقْلٍ مُمَيِّزٍ إلَّا أَنَّ امْتِنَاعَ تَبَرُّعِهِ لَحِقَ الْمَوْلَى فَإِذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>