للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ لَا يَكُونَ صَائِمًا وَيَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ.

وَالْمُرَادُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ هُوَ كَلَامُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَتْجَرًا لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ» .

(وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ أَخِيهِ جَعْفَرٍ: هَلَّا اشْتَرَيْت خَادِمًا؟ قَالَ: كُنْت مُعْتَكِفًا قَالَ: وَمَاذَا عَلَيْك لَوْ اشْتَرَيْت.

أَشَارَ إلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ مَتَاجِرَ كَالسُّوقِ يُبَاعُ فِيهَا وَتُنْقَلُ الْأَمْتِعَةُ إلَيْهَا أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ فَلِأَنَّ نُصُوصَ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وقَوْله تَعَالَى ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٣١] وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللِّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنَّوْمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ [البقرة: ١٨٧] وقَوْله تَعَالَى ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١] وقَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: ٣٢] وَقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ [النبأ: ٩] وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالنَّوْمَ فِي الْمَسْجِدِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لَوْ مُنِعَ مِنْهُ؛ لَمُنِعَ مِنْ الِاعْتِكَافِ إذْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ.

وَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ٧٠] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: أَيْ صِدْقًا وَصَوَابًا لَا كَذِبًا وَلَا فُحْشًا.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَنِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ.

فَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا فِيهِ مَأْثَمٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى.

وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي اعْتِكَافِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِذَا فَعَلَ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ وَأَقَامَ فِي اعْتِكَافِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَمْضِي فِي إحْرَامِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَدَعَ الِاعْتِكَافَ وَيَحُجَّ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ.

أَمَّا صِحَّةُ الْإِحْرَامِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا.

أَلَا تَرَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْإِحْرَامِ فَيَبْقَى مَعَهُ أَيْضًا، وَإِذَا صَحَّ إحْرَامُهُ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الِاعْتِكَافَ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَأَمَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَدَعُ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ وَالِاعْتِكَافُ لَا يَفُوتُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِاَلَّذِي يَفُوتُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْحَجَّ آكَدُ وَأَهَمُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى وَإِذَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ يَقْضِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ الِاعْتِكَاف إذَا فَسَدَ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَاَلَّذِي فَسَدَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَأَعْنِي بِهِ الْمَنْذُورَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا يَقْضِي إذَا قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا الرِّدَّةُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إذَا فَسَدَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ فَائِتًا مَعْنًى فَيَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ جَبْرًا لِلْفَوَاتِ وَيَقْضِي بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَهُ مَعَ الصَّوْمِ فَيَقْضِيهِ مَعَ الصَّوْمِ غَيْرَ أَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَا غَيْرَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ.

وَإِذَا كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعِي فِيهِ صِفَةَ التَّتَابُعِ وَسَوَاءٌ فَسَدَ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ إلَّا الرِّدَّةُ، أَوْ فَسَدَ بِصُنْعِهِ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ فَخَرَجَ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الرِّدَّةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] وَقَوْلُ النَّبِيِّ «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَالْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ الطَّوِيلِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ.

وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ إذَا قَطَعَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْيَوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقْضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ لِلرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ.

وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>