للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ﷺ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ ﵁ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ - قَدْ مُثِّلَ وَجُرِحَ جِرَاحَاتٍ عَظِيمَةً اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَقْسَمَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَلِكَ بِكَذَا كَذَا مِنْ قُرَيْشٍ فَنَزَلَ النَّهْيُ عَنْ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَذَلِكَ تَكْفِيرٌ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ الْبِرُّ فِيهِ حَقِيقَةً وَذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِيرِ لِلْأُمَّةِ قَبْلَ الْحِنْثِ إذْ هُوَ ﷺ قُدْوَةٌ وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ إذْ هُوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الشَّيْءِ، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ لِكَوْنِ الْحِنْثِ خُلْفًا فِي الْوَعْدِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: ٩١] ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: ٩٢] وَلِكَوْنِهِ اسْتِخْفَافًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَتْ الْيَمِينُ مَانِعَةً مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَتْ مَانِعَةً مِنْ الْوُجُوبِ إذْ الْوُجُوبُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ؟ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَذَا بِالْمَالِ بِخِلَافِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً فَكَانَ تَكْفِيرًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَجَازَ وَأَمَّا إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ فَعَلَى إضْمَارِ الْحِنْثِ فَيَكُونُ الْحِنْثُ بَعْدَ الْيَمِينِ سَبَبًا لَا قَبْلَهُ وَالْحِنْثُ يَكُونُ سَبَبًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَمَّاهُ كَفَّارَتَهُ لِقَوْلِهِ ﷿ ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُكَفِّرُ بِالذَّنْبِ وَلَا ذَنْبَ إلَّا ذَنْبُ الْحِنْثِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنَثْتُمْ كَمَا يَقْرَأُ ابْنُ مَسْعُودٍ ﵁ فَإِنْ قِيلَ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِنَفْسِ الْيَمِينِ أَصْلَ الْوُجُوبِ لَكِنْ يَجِبُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحِنْثِ كَالزَّكَاةِ تَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ النِّصَابِ، لَكِنْ يَجِبُ الْأَدَاءُ عِنْدَ الْحَوْلِ، وَقَوْلُهُ ﷺ «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» لِنَفْيِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا لِنَفْيِ أَصْلِ الْوُجُوبِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ إلَّا وُجُوبُ الْفِعْلِ،.

فَأَمَّا وُجُوبُ غَيْرِ الْفِعْلِ فَأَمْرٌ لَا يُعْقَلُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ صَامَ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَعُلِمَ أَنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى كَفَّارَةً قَبْلَ وُجُوبِهَا كَمَا يُسَمَّى مَا يُعَجَّلُ مِنْ الْمَالِ زَكَاةً قَبْلَ الْحَوْلِ وَكَمَا يُسَمَّى الْمُعَجَّلُ كَفَّارَةً بَعْدَ الْجِرَاحَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحِنْثِ فِي جَوَازِهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ بَعْدَ الْحِنْثِ مُرَادَةٌ بِالْآيَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا يُسَمَّى كَفَّارَةً مَجَازًا لِعَرَضِيَّةِ الْوُجُوبِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مُنْتَظِمًا الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ.

وَأَمَّا تَكْفِيرُ النَّبِيِّ ﷺ فَنَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى كَانَ تَكْفِيرًا بَعْدَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْبِرِّ فَيَكُونُ تَكْفِيرًا بَعْدَ الْحِنْثِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَنْ حَلَفَ لَآتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَمَاتَ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ بِالْمَوْتِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَعْصُومٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْوَفَاءُ بِتِلْكَ الْيَمِينِ مَعْصِيَةٌ إذْ هُوَ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ يَمِينُهُ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مُنْعَقِدَةً عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ وَلَمَّا نُهِيَ ﷺ عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَصَارَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً صَارَ إنْشَاءً وَعَاجِزًا عَنْ الْبِرِّ فَصَارَ حَانِثًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ وَقْتُ يَأْسِهِ وَقْتَ النَّهْيِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَقْتُ الْيَأْسِ وَالْعَجْزِ حَقِيقَةً هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ إذْ غَيْرُ النَّبِيِّ ﷺ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْمَعَاصِي فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ لِتَصَوُّرِ وُجُودِ الْبِرِّ مَعَ وَصْفِ الْعِصْيَانِ فَهُوَ الْفَرْقُ - وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ -.

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ ﷿ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ أَوْ الْمُسْتَحْلِفِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ ﷿ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ أَوْ الْمُسْتَحْلِفِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ عَلَى الْمَاضِي فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي بِالْإِثْمِ فَمَتَى كَانَ الْحَالِفُ ظَالِمًا كَانَ آثِمًا فِي يَمِينِهِ وَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالْيَمِينِ إلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ النَّارَ قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا قَالَ ﷺ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ قَالَهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>