للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَتَّى يُغْنِيَ ذِكْرُ السَّمِيعِ عَنْ ذِكْرِ الْعَلِيمِ فَيَتَعَلَّقَ بِذِكْرِ الْعَلِيمِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَمَاعَ الطَّلَاقِ يَقِفُ عَلَى ذِكْرِ الطَّلَاقِ بِحُرُوفِهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ، وَهِيَ مَسْمُوعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ مَسْمُوعًا مَذْكُورًا بِحُرُوفِهِ، وَكَذَا طَلَاقُ الْأَخْرَسِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْإِيلَاءِ طَلَاقًا التَّلَفُّظُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَقِفُ سَمَاعُ صَوْتِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: " لَفْظُ الْإِيلَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ " مَمْنُوعٌ بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِيلَاءَ طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبِرِّ فَيَصِيرُ الزَّوْجُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى مُوجِبِ هَذِهِ الْيَمِينِ مُعَلِّقًا طَلَاقًا بَائِنًا بِتَرْكِ الْقُرْبَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٧] سَمَّى تَرْكَ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ عَزْمَ الطَّلَاقِ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَنَّهُ سَمِيعٌ لِلْإِيلَاءِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيلَاءَ السَّابِقَ يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ.

وَأَمَّا صِفَتُهُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خُيِّرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَاخْتَارَ الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ بِإِيقَاعٍ مُبْتَدَإٍ، وَهُوَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا.

(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ﵃ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ﵃ أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ، فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهَا إلَّا بِالْبَائِنِ لِتَتَخَلَّصَ عَنْهُ فَتَتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ وَلَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِالْبَائِنِ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ يُؤَدِّي إلَى الْعَبَثِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَبَى الْفَيْءَ، وَالتَّطْلِيقَ يُقَدَّمُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطَلِّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ عِنْدَهُ ثُمَّ إذَا طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ يُرَاجِعُهَا الزَّوْجُ فَيَخْرُجُ فِعْلُ الْحَاكِمِ مَخْرَجَ الْعَبَثِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَأَمَّا قَدْرُهُ، وَهُوَ قَدْرُ الْوَاقِعِ مِنْ الطَّلَاقِ فِي الْإِيلَاءِ، فَالْأَصْلُ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْإِيلَاءِ يَتْبَعُ الْمُدَّةَ لَا الْيَمِينَ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ، وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا، وَفِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَتْبَعُ الْيَمِينَ فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْيَمِينِ، وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ هُوَ الْيَمِينُ فَيُنْظَرُ إلَى الْيَمِينِ فِي الِاتِّحَادِ، وَالتَّعَدُّدِ لَا إلَى الْمُدَّةِ.

وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَلُزُومَ الْكَفَّارَةِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَ الْيَمِينِ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهَا، وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ، وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ.

(وَلَنَا) أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ لِمَنْعِهِ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ إذْ بِهِ يَصِيرُ ظَالِمًا، وَالْمَنْعُ يَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ فَيَتَّحِدُ الظُّلْمُ فَيَتَّحِدُ الطَّلَاقُ، وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا فَيَتَعَدَّدُ الظُّلْمُ فَيَتَعَدَّدُ الطَّلَاقُ، فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ ﷿، وَالْهَتْكُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الِاسْمِ، وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، فَلَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ قَرِبَهَا لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ، وَالْيَمِينِ جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ التَّكْرَارَ فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَالْبِرِّ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْمُدَّةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُذْكَرُ لِلتَّكْرَارِ فِي الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ فَإِذَا نَوَى بِهِ تَكْرَارَ الْأَوَّلِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَثَلَاثٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ ثَلَاثُ إيلَاءَاتٍ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَالْبِرِّ جَمِيعًا، وَيَنْعَقِدُ كُلُّ إيلَاءٍ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَفِئْ بِتَطْلِيقَةٍ ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَاعَةٌ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَاعَةٌ أُخْرَى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ قَرِبَهَا فِي الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ.

وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، قَالَهُ ثَلَاثًا فَجَاءَ غَدٌ يَصِيرُ مُولِيًا فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ إيلَاءً وَاحِدًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَصِيرُ مُولِيًا ثَلَاثَ إيلَاءَاتٍ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّغْلِيظَ، وَالتَّشْدِيدَ فَكَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ هُوَ ثَلَاثٌ فِي حَقِّ الْبِرِّ، وَالْحِنْثِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ

<<  <  ج: ص:  >  >>