للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا لَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا، وَالرَّدُّ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» وقَوْله تَعَالَى ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢] وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا، وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَةً يَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَكَذَا إنْ جَامَعَتْهُ، وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ لَهَا عِنْدَنَا فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ رَجْعَةً لَصَارَتْ مُرْتَكِبَةً لِلْحَرَامِ عَلَى تَقْدِيرِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ رَجْعَةٍ مِنْ الزَّوْجِ فَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْهَا رَجْعَةً شَرْعًا ضَرُورَةَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ؛ وَلِأَنَّ جِمَاعَهَا كَجِمَاعِهِ لَهَا فِي بَابِ التَّحْرِيمِ، فَكَذَا فِي بَابِ الرَّجْعَةِ.

وَكَذَلِكَ إذَا لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ فَهُوَ مُرَاجِعٌ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمَسَ أَوْ نَظَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَكُ رَجْعَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ فِي الْجُمْلَةِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَابِلَةَ، وَالطَّبِيبَ يَنْظُرَانِ إلَى الْفَرْجِ، وَيَمَسُّ الطَّبِيبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ رَجْعَةً، وَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ لِشَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ.

وَيُكْرَهُ التَّقْبِيلُ، وَاللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ، وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَرَاهَا مُتَجَرِّدَةً لِغَيْرِ شَهْوَةٍ.

كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَشْتَهِيَ فَيَصِيرَ مُرَاجِعًا مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا لَا يَأْمَنُ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَهِيَ فَيَصِيرَ بِهِ مُرَاجِعًا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ إمْسَاكَهَا فَيُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا فَتَتَضَرَّرُ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١] ، وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ الْأَحْسَنَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَنْ يَتَنَحْنَحَ، وَيُسْمِعَهَا خَفْقَ نَعْلَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا حَرَامٌ وَلَكِنْ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَرَى الْفَرْجَ بِشَهْوَةٍ فَيَكُونَ رَجْعَةً بِغَيْرِ إشْهَادٍ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ أَبِي يُوسُفَ وَلَوْ نَظَرَ إلَى دُبُرِهَا مَوْضِعِ خُرُوجِ الْغَائِطِ بِشَهْوَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَجْعَةً كَذَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرُ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا إنَّهُ يَكُونُ رَجْعَةً ثُمَّ رَجَعَ، حَكَى إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ رُجُوعَهُ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّبِيلَ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْفَرْجِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالنَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ إنَّمَا كَانَ رَجْعَةً لِكَوْنِ الْوَطْءِ حَلَالًا تَقْرِيرًا لِلْحِلِّ صِيَانَةً عَنْ الْحَرَامِ، وَالنَّظَرُ إلَى هَذَا الْمَحَلِّ عَنْ شَهْوَةٍ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِحَالٍ كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ فِيهِ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِحَالٍ، فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الرَّجْعَةِ.

وَلَوْ نَظَرَتْ إلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ رَجْعَةً، وَهَذَا قَبِيحٌ وَلَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالصَّحِيحُ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا جَامَعَتْهُ، وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَ حَلَالٌ لَهَا كَالْوَطْءِ فَيُجْعَلُ رَجْعَةً تَقْرِيرًا لِلْحِلِّ وَصِيَانَةً عَنْ الْحُرْمَةِ؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ نَظَرَهَا إلَى فَرْجِهِ كَنَظَرِهِ إلَى فَرْجِهَا فِي التَّحْرِيمِ فَكَذَا فِي الرَّجْعَةِ.

وَلَوْ لَمَسَتْهُ لِشَهْوَةٍ مُخْتَلِسَةً أَوْ كَانَ نَائِمًا أَوْ اعْتَرَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَهُوَ رَجْعَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ سَوَّى بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمَسَتْ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: هَهُنَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَهُنَاكَ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْجَارِيَةِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ فَرَّقَ فَقَالَ: ثَمَّةَ يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ، وَهَهُنَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَفِي رِوَايَةٍ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: فِعْلُهَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً هَهُنَا وَلَا فِعْلُ الْأَمَةِ يَكُونُ إجَازَةً ثَمَّةَ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لَا يَقِفُ عَلَى فِعْلِ الْمُشْتَرِي بَلْ قَدْ يَبْطُلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كَمَا إذَا تَعَيَّبَتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَأَمَّا الرَّجْعَةُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ إلَّا بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهَا إذَا لَمَسَتْهُ فَتَرَكَهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهَا كَانَ ذَلِكَ رَجْعَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَكَّنَهَا مِنْ اللَّمْسِ فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمَسَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا ابْتَدَأَتْ اللَّمْسَ، وَهُوَ مُطَاوِعٌ لَهَا أَنَّهُ يَكُونُ رَجْعَةً لِمَا قُلْنَا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ إدْخَالُ الشَّيْءِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ وَلَيْسَتْ الرَّجْعَةُ إدْخَالَ الْمَرْأَةِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى مِلْكِهِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ بِفِعْلِهَا لَمْ تَمْلِكْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَصَحَّتْ الرَّجْعَةُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّ اللَّمْسَ حَلَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَنَا فَلَزِمَ تَعَذُّرُ الْحِلِّ فِيهِ، وَصِيَانَتُهُ عَنْ الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ يَجْعَلُهُ رَجْعَةً عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ كَمَا قَالَ فِي الْجَارِيَةِ إنَّ اللَّمْسَ مِنْهَا لَوْ لَمْ يُجْعَلْ إجَازَةً لِلْبَيْعِ، وَرُبَّمَا يُفْسَخُ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّمْسَ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ وَجْهٍ، وَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>