للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ ﷿ ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: ٣] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ إحْسَانٌ بِهِمْ فَكَانَ وَاجِبًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ أَمْرًا بِتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتْرُكُ أَصْلَ النَّفَقَةِ عَلَى مَمْلُوكِهِ إشْفَاقًا عَلَى مِلْكِهِ وَقَدْ يُقَتِّرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا فِي يَدِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ ﷿ السَّادَاتِ بِتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ جَعَلَ مَنْ هُوَ مِنْ جَوْهَرِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ فِي الْخِلْقَةِ خَدَمًا وَخَوَلًا أَذِلَّاءَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ يَسْتَخْدِمُونَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُونَهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُوصِي بِالْمَمْلُوكِ خَيْرًا وَيَقُولُ «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] » وَعَنْ أَنَسٍ ﵁ قَالَ كَانَ آخِرُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَجَعَلَ ﷺ يُغَرْغِرُ بِهَا فِي صَدْرِهِ وَمَا يَقْبِضُ بِهَا لِسَانَهُ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ نَفَقَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لَهَلَكَ.

[فَصْلٌ فِي سَبَبُ وُجُوبِ نَفَقَة الرَّقِيق]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهَا فَالْمِلْكُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمَمْلُوكِ انْتِفَاعًا وَتَصَرُّفًا وَهُوَ نَفْسُ الْمِلْكِ فَإِذَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ لِلْمَالِكِ كَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ؛ إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ أُمَّهُ إنْ كَانَتْ حُرَّةً؛ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً؛ فَهُوَ مِلْكُ مَوْلَاهَا فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا مَالَ لَهُ بَلْ هُوَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْ هَذَا الْوَلَدِ فَكَيْفَ تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْغَيْرِ لِمِلْكِ الْغَيْرِ؟ وَكَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ نَفَقَةُ وَلَدِهِ الْمَمْلُوكِ بِأَنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ أَمَةَ غَيْرِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ مَمْلُوكِ غَيْرِهِ.

وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمِلْكُ ثُمَّ إنْ كَانَ بَالِغًا صَحِيحًا فَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ زَمِنًا؛ قَالُوا: إنَّ نَفَقَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُرٌّ عَاجِزٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ قَرِيبٌ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ، وَكَذَا اللَّقِيطُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَالٌ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا، وَقَالُوا فِي الصَّغِيرِ فِي يَدِ رَجُلٍ: قَالَ لِرَجُلٍ: هَذَا عَبْدُك أَوْدَعْتَنِيهِ فَجَحَدَ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ ﷿ مَا أَوْدَعْته فَإِنْ حَلَفَ قَضَيْت بِنَفَقَتِهِ عَلَى الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِرِقِّهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ وَقَدْ رَدَّ الْغَيْرُ إقْرَارَهُ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ فَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا لَمْ أَسْتَحْلِفْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَبِيرًا كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَكَانَ دَعْوَاهُ هَدَرًا فَيَقِفُ الْأَمْرُ عَلَى دَعْوَى الْكَبِيرِ فَكُلُّ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَصَدَّقَهُ؛ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا وَقَالُوا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَيَانِ: إنَّ نَفَقَةَ هَذَا الْوَلَدِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْوَلَدِ إذَا كَبِرَ نَفَقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبٌ كَامِلٌ فِي حَقِّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي شَرْطُ وُجُوبِ نَفَقَة الرَّقِيق]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مَمْلُوكَ الْمَنَافِعِ وَالْمَكَاسِبِ لِلْمَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ نَفَقَةُ عَبْدِهِ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ أَكْسَابَهُمْ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكِ الْمَكَاسِبِ لِمَوْلَاهُ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ مَوْلَاهُ فَكَانَ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ؛ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ كَالْحُرِّ وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا: حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ - نَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ لَا عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، وَنَفَقَةُ عَبْدِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ لَهُ، وَنَفَقَةُ عَبْدِ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ لِمَا قُلْنَا، وَنَفَقَةُ عَبْدِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِي زَمَنِ الْعَارِيَّةِ لَهُ؛ إذْ الْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَنَفَقَةُ عَبْدِ الْغَصْبِ قَبْلَ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ - عَلَى بَعْضِ طُرُقِ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ وَالنَّفَقَةُ مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِاسْتِبْقَائِهِ وَلَا يَبْقَى عَادَةً إلَّا بِالنَّفَقَةِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ مِنْ مُؤْنَاتِ الرَّدِّ لِكَوْنِهَا مِنْ ضَرُورَاتِهِ فَكَانَتْ عَلَى الْغَاصِبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>