للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقول: رغم هذا وذاك، فإن المذهب المالكي، يظل رائد المذاهب في مراعاة مقاصد المكلفين وبناء الأحكام عليها، كما سيتضح قريبًا. بإذن الله تعالى.

وأما علاقة مراعاة مقاصد المكلفين، بمراعاة مقاصد الشارع، فإنها تتمثل في أمرين: الأول، هو أنهما ينبعان من منبع واحد ويشتركان في أصل واحد، وهو: مراعاة المقاصد، وعدم الاقتصار على الظواهر والأشكال. فمن أخذ بهذا في كلام الشارع وأحكامه وتصرفاته، أخذ به أيضًا في كلام الناس وعقودهم وتصرفاتهم، ومن قصر في هذا قصر في هذا، فالنظرة واحدة والمنهج واحد.

وأما الأمر الثاني الذي تتمثل فيه العلاقة بين مقاصد المكلف ومقاصد الشارع، فأترك بيانه للإمام الشاطبي، وسيأتي ذلك في حينه بحول الله تعالى.

وأعود إلى مراعاة مقاصد المكلفين في المذهب المالكي، وريادته في ذلك. وقد مر معنا -من قريب- أن المالكية يبطلون البيوع والأنكحة التي يظهر فيها القصد الفاسد. وليس هذا إلا جانبًا من الأصل العام، وهو اعتبار العقود بمقاصد أهلها ونياتهم، وفي هذا يقول ابن تيمية: "والعقود: من الناس من أوجب فيها الألفاظ، وتعاقب الإيجاب والقبول ونحو ذلك. وأهل المدينة جعلوا المرجع في العقود إلى عرف الناس وعادتهم. فما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه هبة فهو هبة. وهذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل"١.

ومن الأمثلة الفقهية في هذا الباب، ما يعرف ببيع المعاطاة، ويدخل فيه كثير من البيوع الصغيرة والمعتادة عند الناس، بحيث يكتفي كل من المتبايعين بالمعاطاة، أي: هذا يعطي الثمن، والآخر يعطي السلعة. بدون إيجاب وقبول، وربما بدون كلام أصلًا، أو بكلام لا يستوفي شروط التعاقد الصحيح، أو بكلام أحدهما دون الآخر. فهذا النوع من البيوع -وقد كثر اليوم، واتسعت دائرته- اتساعًا كبيرًا جدا- في تصحيحه وإبطاله ثلاثة مذاهب٢:


١ مجموع الفتاوى: ٢٠/ ٣٤٥.
٢ ملخصًا عن: "الفقه الإسلام وأدلته" للدكتور وهبة الزحيلي: ٤/ ١٠٠-١٠١.

<<  <   >  >>