للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الذِّهْنِ وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا فِي ضِمْنِ أَفْرَادِهِ، فَإِذَا قِيلَ إِيمَانُ زَيْدٍ مِثْلُ إِيمَانِ عَمْرٍو، فَإِيمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ يَخُصُّهُ مُعَيَّنٌ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَالنُّقْصَانَ، وَمَنْ نَفَى التَّفَاضُلَ إِنَّمَا يَتَصَوَّرُ فِي نَفْسِهِ إِيمَانًا مُطْلَقًا كَمَا يَتَصَوَّرُ إِنْسَانًا مُطْلَقًا وَوُجُودًا مُطْلَقًا عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهُ، ثُمَّ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِي النَّاسِ، وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ بَلْ لَا يَقْبَلُ فِي نَفْسِهِ التَّعَدُّدَ إِذْ هُوَ تَصَوُّرٌ مُعَيَّنٌ قَائِمٌ فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ ; وَلِهَذَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُشْتَرِكَةَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ هِيَ وَاحِدَةٌ فِي الشَّخْصِ وَالْعَيْنِ حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً إِلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ كَذَلِكَ، فَتَصَوَّرُوا أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشْتَرِكَةً فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَتَصَوَّرُوا هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَظَنُّوهُ فِي الْخَارِجِ كَمَا هُوَ فِي أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّهُ اللَّهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - فَجُعِلُوا رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ هَذَا الْوُجُودَ الَّذِي لَا يُوجَدُ قَطُّ إِلَّا فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ، لَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ أَبَدًا. وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ تَصَوَّرُوا أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً، وَحَقَائِقَ مُجَرَّدَةً وَيُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ الْأَفْلَاطُونِيَّةَ، وَزَمَانًا مُجَرَّدًا عَنِ الْحَرَكَةِ وَالْمُتَحَرِّكَ، وَبُعْدًا مُجَرَّدًا عَنِ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا، ثُمَّ ظَنُّوا وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمُ اشْتُبِهَ عَلَيْهِمْ مَا فِي الْأَذْهَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ، وَتَوَلَّدَ مِنْ هَذَا بِدَعٌ وَمَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: ذَهَبَ السَّلَفُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ ; وَلِهَذَا كَانَ إِيمَانُ الصِّدِّيقِ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ غَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا تَعْتَرِيهِ الشُّبْهَةُ. وَقَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ يَتَفَاضَلُ حَتَّى إِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَعْظَمَ يَقِينًا وَإِخْلَاصًا وَتَوَكُّلًا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ بِحَسَبِ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ وَكَثْرَتِهَا. وَمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ - يَعْنِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ - صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي عَصْرِهِمْ، وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>