للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاخْتَارَ أَنَّ خَلْقَ الْجَسَدِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَلْقِ الرُّوحِ وَزَيَّفَ كَلَامَ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ أَخْذِ اللَّهِ الْمِيثَاقَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَالْعَهْدَ وَالْإِشْهَادَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ خَلْقِ الْأَرْوَاحِ قَبْلَ الْأَجْسَادِ خَلْقًا مُسْتَقِرًّا وَإِنَّمَا غَايَتُهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى إِخْرَاجِ صُوَرِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ فِي صُوَرِ الذَّرِّ وَاسْتِنْطَاقِهِمْ ثُمَّ رَدِّهِمْ إِلَى أَصْلِهِمْ إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، وَالَّذِي صَحَّ إِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ السَّابِقُ وَتَقْسِيمُهُمْ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: ١١] فَلَائِقٌ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِيَّتِهِ لِتَرَتُّبِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَى خَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا.

وَالْخِطَابُ لِلْجُمْلَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} [الأعراف: ١١] يَعْنِي آدَمَ {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: ١١] يَعْنِي ذُرِّيَّتَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ خَلَقْنَاكُمْ يَعْنِي آدَمَ {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: ١١] فِي ظَهْرِ آدَمَ. وَإِنَّمَا قَالَ خَلَقْنَاكُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهُوَ يُرِيدُ آدَمَ كَمَا يُقَالُ ضَرَبْنَاكُمْ وَإِنَّمَا ضَرَبْتَ سَيِّدَهُمْ.

قَالَ وَأَمَّا حَدِيثُ خَلْقِ الْأَرْوَاحِ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ فَإِنَّ فِيهِ عُتْبَةَ بْنَ السَّكَنِ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ مَتْرُوكٌ، وَفِيهِ أَيْضًا أَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ بَعْضُ أَحَادِيثِهِ غَلَطٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَيِّمِ تَبَعًا لِشَيْخِهِ وَجُمُوعٍ، أَنَّ خَلْقَ الْأَجْسَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَلْقِ الْأَرْوَاحِ. وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَالْإِمَامُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ إِلَى تَقَدُّمِ خَلْقِ الْأَرْوَاحِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(فَائِدَتَانِ)

(الْأُولَى) رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " «أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنُعْمَانَ - يَعْنِي عَرَفَةَ - فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَشَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا» " قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ مُثِيرُ الْغَرَامِ السَّاكِنِ إِلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ أَوَّلُ وَطَنٍ وَالنَّفْسُ أَبَدًا تُنَازِعُ إِلَى الْوَطَنِ الْأَوَّلِ.

(الثَّانِيَةُ) ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّ اللَّهَ

<<  <  ج: ص:  >  >>