للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعُوضَةٍ» "، فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمَوْزُونَ نَفْسُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا ضَرَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلًا لِلَّذِي يَغْتَرُّ بِبَعْضِ الْأَجْسَامِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اكْتِرَاثِ اللَّهِ بِالْأَجْسَادِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْقُلُوبِ، فَكَمْ مِنْ جِسْمٍ وَسِيمٍ وَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ، فَهَذَا مَحْمِلُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الثَّالِثُ)

قَالَ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوزَنُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ضِدٌّ يُوضَعُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ ضِدَّهُ الْكُفْرُ، وَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ لَا يَكُونَانِ فِي الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ.

قُلْتُ: هَذَا وَزْنُ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَهِيَ أُسُّ الْإِيمَانِ، وَانْتَصَرَ الْقُرْطُبِيُّ لِلنَّسَفِيِّ كَالْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ، وَأَجَابَ عَنْ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ بِأَنَّهَا تَكُونُ إِيمَانًا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ مِنْ حَسَنَاتِهِ.

قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا إِيمَانًا، وَقَدْ سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ هِيَ؟ " مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ.

قُلْتُ:

وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. (فَإِنْ قِيلَ) مَا الْحِكْمَةُ فِي الْوَزْنِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَيَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ؟ (أَجَابَ) الثَّعْلَبِيُّ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ تَعْرِيفُ اللَّهِ عَبِيدَهُ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ: بَلِ الْحِكْمَةُ فِيهِ إِظْهَارُ الْعَدْلِ وَبَيَانُ الْفَضْلِ حَيْثُ أَنَّهُ يَزِنُ مِثْقَالَ الذَّرَّةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: ٤٠] .

(الرَّابِعُ)

ظَوَاهِرُ الْآثَارِ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْوَزْنِ فِي الْآخِرَةِ خِفَّةً وَثِقَلًا مِثْلُ كَيْفِيَّتِهِ فِي الدُّنْيَا، مَا ثَقُلَ نَزَلَ إِلَى أَسْفَلَ ثُمَّ يُرْفَعُ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَمَا خَفَّ طَاشَ إِلَى أَعْلَى ثُمَّ نَزَلَ إِلَى سِجِّينٍ، وَبِهِ صَرَّحَ جُمُوعٌ مِنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: بَلِ الصِّفَةُ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنَّ عَمَلَ الْمُؤْمِنِ إِذَا رَجَحَ صَعِدَ وَسَفُلَتْ سَيِّئَتُهُ، وَالْكَافِرُ تَسْفُلُ كِفَّتُهُ لِخُلُوِّ الْأُخْرَى عَنِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: ١٠] .

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي صِفَةِ الْوَزْنِ أَنْ تُجْعَلَ جَمِيعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>