للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العلمانية والإسلام:

لا ريب في أن المسيحية قنعت بنصيب ما منحتها إياه بعض العلمانيات المعتدلة , بحيث تقوم بنشاط معين في إطار الدولة العلمانية في قبالة العلمانية الماركسية التي رفضت أي نشاط متصور لها. وهذا ما حدث أخيرًا في إيطاليا مثلًا.

ولكن ما هو موقف الإسلام منها؟ وهل تمتلك مسوغاتها في الحقل الإسلامي؟

إننا نرى أن الإسلام لم يدع منذ البدء مجالًا لحدوث هذه النتيجة بعد أن قرر:

أولًا: وحدة السلطتين الدينية والسياسية بل جعل تعيين الإمام (وهو القائد السياسي والديني في آن واحد) إتمامًا للدين وإكمالًا للنعمة السماوية على الأرض كلها , ولم يسمح بأي انفصال جوهري بينهما، وأي انفصال رئي بعد ذلك فإنما كان يعبر عن تطبيق غير سليم للإسلام.

وإذا رجعنا إلى ملاحظة صفات الإمام أو الحاكم في الإسلام لم يبق مجال مطلقًا لتصور عملية تكريس للذات ومصالحها، بعد فرض علمه الفقهي الواسع والتزامه الكامل بتطبيق الشريعة الإسلامية المقررة. هذا والتاريخ يشهد على السيرة الممتازة التي سار فيها قادة المسلمين، بغض النظر عن بعض الذين تحدوا وطغوا. وإذا نظرنا إلى نظام (نيابة الفقيه عن الإمام) وولايته وجدنا أن الفقيه لا يمتلك هذا المقام إلا بعد توفر شروط أهمها (الكفاءة، والعدالة، والفقه العميق) ويفقد أي قدرة بفقدان أي منها، والأمة المشبعة بروح هذه الشروط هي المراقبة لسير هذا الفقيه كما أن مجلس الفقهاء العدول الأكفاء هو الحارس الأمين على السير الصحيح (١) .

وحتى إذا نظرنا لنظام الشورى ـ بدون ولاية لشخص ما ـ نجد أنه أفضل بكثير من أي نظام زمني يسلم أموره كلها لآراء الشعب لأنه يسير وفق تشريع سماوي مسبق وطبق ضوابط شرعية.

وعلى أي حال فإن الإسلام لم يفسح المجال مطلقًا لظهور هذه الثنائية بين السلطة المدنية والسلطة الدينية وهي من أفدح الأخطاء التي تفقد السلطة السياسية دورها الحقيقي في نفس الوقت الذي تشوه حقيقة الدين وتوجيهه للحياة.

ثانيًا: خطط الإسلام للجانب المتغير من الحياة فوضع القواعد العامة والأحكام الظاهرية والاضطرارية وفتح مناطق فراغ يملأها الحاكم الإسلامي الفقيه العادل على ضوء مشورته ومتطلبات الظروف إلى جانب إشباعه للجانب الثابت في الحياة الإنسانية ـ وهو الجانب الفطري الأصيل ـ بقوانين ثابتة. فلا مجال إذن للجمود وأمثال ذلك.

وقد تصور هؤلاء أن الدولة الدينية لما كانت تقوم على الإيمان بحقائق فلسفية مطلقة ثابتة بل وتؤمن بلزوم الإطلاق في الحقيقة بمعنى (مطابقة الفكرة للواقع الخارجي) فهذا يعني الإيمان بقوانين اجتماعية ثابتة لا تتغير مطلقًا وهو لا يعدو مجرد خلط وسخف , فالإيمان بالحقيقية المطلقة شرط لأن تفرض إمكان المعرفة وحصول اليقين بالواقع الموضوعي الخارجي , ولا ربط له بالإيمان بثبات كل النظم الاجتماعية أو عدمه.

إن الإسلام يؤمن بتطور كثير من الجوانب الاجتاعية في نفس الوقت الذي يؤمن فيه بثبات الحقيقية الفلسفية؛ لأنهما مجالان لا ربط بينهما ولا يخلط بينهما إلا جاهل أو مغالط.


(١) يراجع كتاب (حول الدستور الإسلامي) وقد صدر عن منظمة الإعلام الإسلامي ـ قسم العلاقات الدولية

<<  <  ج: ص:  >  >>