للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(٤) ترجيح ما هو أحق بالاتباع

وخاصة في عصرنا

المذاهب الفقهية الإسلامية ثروة علمية خصبة لا نظير لها ولا مثيل في العالم، وهي تدل على ثراء الفكر الإسلامي ونضجه وعمقه وسعة أفق الفقهاء، وإسهامهم الشامل في خدمة الإسلام وبقائه حيًّا مرنًا صالحًا للتطبيق في كل زمان ومكان، إذ لم يتركوا جانبًا من جوانب الحياة في عصرهم إلا وجدوا له حلًّا وحكمًا بالحل أو الحرمة، فجزى الله سادتنا أئمة المذاهب خير الجزاء، ولن يخلفهم التاريخ لابتكارهم أصول الاجتهاد، واقتفائهم سيرة الصحابة والتابعين.

وقد استفاد المسلمون من فقههم واجتهادهم فوائد لا تنكر، فوجب علينا تقديرهم، وطلب الرحمة الإلهية لهم، ويعد المساس بواحد منهم إنكارًا للجميل، وتنكرا للمعروف الواجب الوفاء به، وظلما واضحا، بل ويأثم كل من نالهم بسوء؛ لأنهم - رضوان الله عليهم - بذلوا أقصى ما في وسعهم بالاجتهاد، وكانوا على جانب عظيم من العلم والتقوى والورع، بل إنهم لم يقصدوا باجتهادهم ما سمي بعدهم بالمذاهب؛ لأن كل إمام منهم كان ينهى الناس عن اتباعه، ويأمر بالاجتهاد، ويمنع التقليد.

لكن ما قدموه من ثمار يانعة وحلول عظيمة هو اجتهاد أمر به الشرع، وهم على حق فيما عملوا، وأدوا به واجبهم العلمي، وفريضة الاجتهاد المطلوبة شرعا، وكل اجتهاد حق، قد يخالف الصواب، وقد يخطئ، ومن اطلع على أسباب اختلاف الفقهاء عذرهم، ومن قرأ أدلة كل إمام فيما ذهب إليه اقتنع بوجهة نظره.

إلا أن الحق لا يتعدد، ونظرًا لأننا لا ندري ما هو الحق والصواب بين الاجتهادات لانقطاع الوحي جاز لنا تقليد أئمة الاجتهاد والثقات والذين دققت آراؤهم وتبلورت اجتهاداتهم وثبت النقل عنهم وأبان تلامذتهم الراجح منها من المرجوح، والصحيح من الضعيف.

غير أننا إذا تمكنا من الترجيح بين آراء المجتهدين، وتوافرت لدينا مُكْنَةُ النظر ودقة الفهم، خلافا لأدعياء الاجتهاد الذين هم أشبه بالجهلاء، فعلينا الترجيح وألا نركن إلى كابوس التقليد المذهبي والتعصب الضيق؛ فإن التعصب أيضا ضرر وجهل، وحماقة وغباء؛ لأن العالم مطالب بالعمل بما صح دليله، وترجح برهانه، وكان أنسب لمقتضيات المصلحة، ومعايير مقاصد الشريعة العامة بالحفاظ على الدين والنفس والعقل، والنسب أو العرض والمال.

<<  <  ج: ص:  >  >>