للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجميع هذه الاعتبارات لا يمكن أن تكون مبررا للقول بمنع التلفيق، ومنع الناس من أن ينالوا من رفق الله تعالى وتيسيره بحظ، ولو لم يكن فيه مشقة. وعلى المستفتي إذا كان من أرباب العزائم، وتحمل المشاق، والمقتنع بأسرار الشريعة ومقاصدها، أن يفتي بالأحوط أخذا بالورع والكمال ما لم تحق به نازلة تقتضي التخفيف فإنه يفتي بالأخف عليه من كل مذهب خشية العجز عن التكليف، فيما إذا شدد عليه بالمنع من التلفيق ومع كونه خاليا من دليل من الكتاب والسنة، يؤيد القول بهذا المذهب، فهو في الآن نفسه يتنافى مع يسر الإسلام ومرونته، ولا يتلاءم مع حاجيات هذا العصر وتطور الحياة الاجتماعية، لأن القضايا الفقهية المتجددة لا يمكن لها أن تحل إذا تقيدنا بمذهب فقهي واحد. وهذا التقيد يقف حجر عثرة أمام المسلمين لأن تعدد المذاهب الفقهية رحمة لهذه الأمة، فلا مانع من أن نستفيد من آراء مختلف الفقهاء والمجتهدين لدفع الحرج والمشقة.

ثم إن كل طبقة من طبقات العوام تفىي بما يناسبها تشديدا أوتخفيفا وفاقا لمقتضى اتساع الشريعة وحكمتها، مع العلم أن مواطن المحظورات لا يسوغ للعلماء التلفيق بها، سواء بالنسبة لهم أو لمن يستفتيهم، إلا في مواطن الضرورة، إذ الضرورات تبيح المحظورات، لكن ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها. وإنما لم يسغ التلفيق في المحظورات للقاعدة المقررة: إن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعلى قاعدة أنه ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام على الحلال.

أما المحظورات العائدة إلى حقوق العباد فمبناها صيانة الحق، ومنع الإيذاء. لذلك لا محل فيه للتلفيق لأنه ضرب من الاحتيال، والعدوان على الحق، وتطرق إلى إيذاء العباد. وذلك للحديث الوارد ((لا ضرر ولا ضرار)) وحديث ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .

كما لا يجوز للمقلد أو المفتي أن يختار للفتوى أقوالا أو أفعالا من نوادر العلماء وشواذهم الذين لم تبن أقوالهم وآراؤهم على قواعد شرعية واضحة، وإنما حكم عليها من أول يوم بالضعف، وأجمعوا على عدم الاعتماد عليها.

التلفيق في التشريع

والتلفيق في التشريع إنما يكون عادة من تخير ولي الأمر من أحكام مختلف المذاهب الفقهية المعتبرة مجموعة من الأحكام تكون قانونا في ميدان واحد من ميادين التشريع، كالأحوال الشخصية أو أحوال الميراث أو ميدان العقود والالتزامات أو غيرها.

وقد ألفت في غالب البلاد الإسلامية لجان لاختيار القوانين المناسبة لهذا العصر من مختلف المذاهب الإسلامية. وأول محاولة كانت في عهد الأتراك العثمانيين بإصدار المجلة العدلية كقانون. وهذا المجلة وإن لم يكن فيها خروج عن المذهب الحنفي إلا أن اختيارات داخل المذهب وخروجا عن قول الإمام إلى أقوال أصحابه وهو نوع من الاجتهاد الجماعي.

وألفت لجنة في تونس من علماء المذهبين المالكي والحنفي في حدود سنة ١٩٥١ برئاسة شيخ الإسلام المالكي الشيخ عبد العزيز جعيط لإصدار مجلة في الأحوال الشخصية تكون عمدة لأهل القضاء الشرعي ولا تعتمد على مذهب معين بل كانت اللجنة مخيرة في اختيار فصولها من المذهبين الحنفي والمالكي المنتشرين بالبلاد التونسية. ويدل هذا العمل على أنه لا مانع من أن يفضي الأمر إلى التلفيق في الأمور الجزئية إذا دعت المصلحة إلى ذلك.

وأعتقد أن مجمعنا هذا لم يقم إلا لاختيار الأقوال الملائمة لحياة العصر، ولا تخرج عن نصوص الشريعة الإسلامية وقواعدها. وهذا هو الحال في كل المجامع التي أسست في بلاد العالم الإسلامي والتي تعمل على مراجعة الأحكام وتنقيحها في حدود النصوص، واختيار أنسب الأقوال لملاءمة مشاكل ومستجدات هذا العصر.

وهذا نوع من التلفيق لم ير فيه العلماء ما يمس بروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

والسلام

مصطفى كمال التارزي.

<<  <  ج: ص:  >  >>