للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أبو بكر الأصم وابن علية: إن دية قتل الخطأ يتحملها الجاني نفسه ولا شيء على العاقلة، ودليلهما أن تحرير الرقبة المؤمنة في الآية واجب على القاتل، فكذلك الدية في الموضعين (١) .

وعلى الرغم من أن حجة الجمهور هي الأقوى حيث ورد في السنة أحاديث صحيحة في ذلك إلا أنه في العصر الحاضر يتعذر من الناحية العملية الحكم على العاقلة، وفي إمكاننا هنا أن نعتمد على قول شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات حيث قال: (وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء، ولا يؤجل على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة فيه، ونص على ذلك الإمام أحمد) (٢) .

وإذا لاحظنا أن الأئمة اختلفوا في من يتحمل الدية ابتداء هل هو الجاني أو العاقلة، ورجحنا القول أن الذي يتحملها ابتداء هو الجاني كما يقول أبو حنيفة ومالك، والمذهب عند الحنابلة، استطعنا أن نقول: إنه يحكم على الجاني بالدية، ثم له الحق أن يطالب عاقلته إن كانت له عاقلة.

ويقول الأستاذ عبد القادر عودة (٣) – رحمه الله -: "إن نظام العاقلة على ما فيه من عدالة لا يمكن أن يقوم في عهدنا الحاضر؛ لأن أساسه وجود العاقلة، وهي ليس لها وجود الآن إلا في النادر، والنادر لا حكم له، فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين اللذين أخذ بهما الفقهاء من قبل؛ إما الرجوع على الجاني بكل الدية، أو الرجوع على بيت المال، والرجوع على الجاني يؤدي إلى إهدار دماء أكثر المجني عليهم لأن المتهمين فقراء، وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التي تقوم على حفظ الدماء وحياطتها، وعدم إهدارها، والرجوع إلى بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق المساواة والعدالة، ويحقق أغراض الشريعة، والخوف من إرهاق الخزانة لا يقف حائلا دون تحقيق المساواة والعدالة، ولا يصح أن يحول دون تحقيق أغراض الشريعة، فالحكومة تستطيع أن تدبر أمرها بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، وتستطيع أن تفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض، وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء أو العاطلين فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، ولقد سبقتنا بعض البلاد الأوربية إلى هذا العمل فأنشأت صندوقا - لتعويض المجني عليه في الجرائم - إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام العاقلة ".


(١) انظر الجصاص: ٢ / ٢٢٣، القرطبي: ٥ / ٥٣١، وكتاب العاقلة في الفقه الإسلامي للدكتور يوسف رجب
(٢) الاختيارات الفقهية - ص (٢٩٤) ط / دار الفكر، وانظر كتاب نيل المآرب: ٤ / ٤٦٣
(٣) التشريع الجنائي: ٢ / ١٩٩

<<  <  ج: ص:  >  >>