للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم تسلسل الأمر إلى تلك المواقف التي لم تعلن فيها وفاة الإنسان بعد، لأنه ما زال محتفظًا بأمارات تعارف الناس على أنها من أمارات الحياة كنبضة القلب وتردد الأنفاس شهيقًا وزفيرًا، في حالات معلوم فيها أن هذه الأمارات ليست ذاتية ولا تلقائية، ولكنها ترتكز على وصل الجسم بوسائل الإنعاش الصناعية، وما دامت دورة الدم والتنفس قائمتين ففي وسع سائر أعضاء الجسم أن تستوعب نصيبًا من الغذاء والأكسجين يُبقي عليها حياتها فلا يدب إليها الموت.. ويمضي زمان يطول أن يقصر حتى تفشل وسائل الإنعاش الصناعية فتنطفئ الحياة تمامًا.

نقول هذه حالات لم تعلن فيها وفاة الإنسان بعد.. فلماذا استعملنا هذا التعبير ولم نقل إنهم أحياء؟

ذلك أن العلم الطبي قد اهتدى إلى أن العبرة في الموت ليست أساسًا بتوقف القلب والتنفس.. ولكنها تتوقف أولًا وآخرًا على موت المخ.. الذي يستبين بتوقف النشاط الكهربائي للمخ تمامًا وهو ما يمكن قياسه بجهاز خاص. فإذا غاضت كهرباء المخ تمامًا، فهو مخ ميت ويكون باقي الجسم قد دخل في نطاق الموت إلى مرحلة اللاعودة، ومهما احتفظ الإنعاش الصناعي بالتنفس ودورة الدم فمحال أن يعود المريض إلى الحياة أبدًا.

موت المخ إذن هو معنى الموت عند الأطباء.. واللحظة التي يخمد فيها المخ تمامًا كهربائيًا هي لحظة حدوث الوفاة علميًا، ووسائل الإنعاش الصناعي تصون الجسم أو فلنقل الجثة في نطاق الحياة فترة ما فلا تتحلل ولا تتفتت ولكنها فترة إلى انتهاء.

ونشأ عن هذا في العالم الطبي موقفان:

الأول: ما دام الكشاف الكهربائي للمخ قد أعلن وفاة المخ.. بصدق وإخلاص وعدم تزييف، فقد أصبح الأطباء في حِلٍّ من نزع أحد أعضاء الميت الحيوية كالقلب مثلًا لزرعه لمريض تالف القلب مشرف على الهلاك ولا أمل له إلا قلب بديل صحيح، وتستغل وسائل الإنعاش الصناعي في حفظ هذا القلب حيًا في جثة صاحبه، ريثما يتم الإعداد للعملية واستدعاء المريض وتحضيره للجراحة، وهي إجراءات تستغرق بعض الوقت، ولولا تلك الوسائل الصناعية لخاس القلب وبدأت فيه تحللات الموت وفقد صلاحيته للزرع، ولما يتم تجهيز المريض المنقول إليه بعد.

<<  <  ج: ص:  >  >>