للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن مظاهر هذه العناية توحيد المكاييل والموازين:

جاء الإسلام ولم يكن للعرب نقود خاصة بهم، وإنما كانت ترد إليهم الدراهم من الإمبراطورية الفارسية، والدنانير من الإمبراطورية الرومية، قال ابن عبد البر: "كانت الدنانير في الجاهلية، وأول الإسلام بالشام وعند عرب الحجاز كلها ورمية تضرب ببلاد الروم عليها صورة الملك، واسم الذي ضربت في أيامه مكتوب بالرومية، ووزن كل دينار منها مثقال كمثقالنا هذا، وكانت الدراهم بالعراق.. كسروية عليها صورة كسرى واسمه فيها مكتوب بالفارسية ووزن كل درهم منها مثقال.." (١) ويقول الرافعي: "وقد ذكر الشيخ أبو حامد وغيره أن المثقال لم يختلف في جاهلية ولا إسلام، وأما الدراهم فإنها كانت مختلفة الأوزان، والذي استقر الأمر عليه، في الإسلام، أن وزن الدرهم الواحد ستة دوانيق، كل عشرة منها بسبعة مثاقيل من ذهب.." (٢) وقال الحافظ ابن حجر: "غالب ما كانوا يتعاملون به من أنواع الدراهم في عصره صلى الله عليه وسلم هو أربعة، فأخذوا واحداً من هذه وقسموها إلى نصفين، وجعلوا كل واحد درهما". (٣)

ولكن الصحيح هو أن الدراهم أيضاً كانت معلومة الوزن والمقدار في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك؛ لأنها تعلقت بها أحكام شرعية من زكاة ونحوها، ولا يمكن أن تتعلق الأحكام إلا بشيء معلوم، يقول الإمام النووي: "الصحيح الذي يتعين اعتماده واعتقاده أن الدراهم المطلقة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة الوزن معروفة المقدار، وهي السابقة إلى الأفهام عند الإطلاق وبها تتعلق الزكاة وغيرها من الحقوق، والمقادير الشرعية، ولا يمنع من هذا كونه كأن هناك دراهم أخرى أقل أو أكثر من هذا القدر، وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الدراهم محمول على المفهوم عند الإطلاق وهو كل درهم ستة دوانق، وكل عشرة سبعة مثاقيل، وأجمع أهل العصر الأول، فمن بعدهم إلى يومنا على هذا، ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين" (٤) ثم نقل عن القاضي عياض قوله: "لا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، وتقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.. وقول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء.. قول باطل.." (٥) وبهذا قال ابن خلدون في مقدمته، (٦) وأيًّا ما كان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وحد لأمته الموازين والمكاييل فقال: ((الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)) (٧) وذلك، " لأن أهل مكة كانوا أهل تجارة، فكانوا يتعاملون بالأوزان من المثاقيل والدراهم والأواقي ونحوها، فيكونون فيها أدق وأضبط، أما أهل المدينة فكانوا فيها أدق، وأضبط فأمر بالرجوع في كل معيار إلى من هم أعلم به، وأضبط له، وأحرص على الدقة فيه" (٨)


(١) التمهيد لابن عبد البر
(٢) فتح العزيز بهامش المجموع ٦/٥
(٣) تلخيص الحبير بهامش المجموع ٦/٥.
(٤) المجموع للنووي ٦/١٤١-١٤/٦١ فنجد فيه تحقيقاً طيباً.
(٥) المصادر السابقة.
(٦) المقدمة ص (٢٣١) .
(٧) رواه الترمذي في سننه –مع التحفة- (٤/٤٠٨) وقال: والصحيح وقفه على ابن عباس. ورواه مرفوعاً الحاكم وصححه.
(٨) فقه الزكاة لفضيلة الشيخ القرضاوي ١/٢٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>