للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"ويدل على ذلك ما هو الأصل: وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق، وأصل ذلك، الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: ٣٥] ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: ٢] ، وما في هذا المعنى، وقد جاء في الحدث: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) (١) ، فلهذا لم يخلص لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى ".

"فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا، إنما تفهم على مقتضى ما غلب؛ فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفاً، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ... ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة، على ما جرت به العادات في مثله ".

"وأما النظر الثاني فيها – من حيث تعلق الخطاب بها شرعاً -: فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة، في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعاً، وتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق؛ وأهدى سبيل، ولكون حصولها أتم وأقرب، وأولى بنيل المقصود، على مقتضى العادات الجارية في الدنيا؛ فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه ".

"وكذلك المفسدة، إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعاً، ولأجله وقع النهي، ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها، حسبما يشهد له كل عقل سليم، فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل، وما سوى ذلك ملغي في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر " (٢) . اهـ.

وعندما تعارض المصالح، يقدم الأهم منها، فلا ينظر إلى مصلحة تفوت مصلحة أهم منها، فإذا تعارضت مصلحتان في مناط واحد، تعارضا كليا، بحيث كان لا بد لنيل إحداهما من تفويت الأخرى، قدم الإبقاء على الأهم منهما، وتفويت الأخرى، فإذا تعارض ما به حفظ الدين على ما به حفظ النفس، قدم ما به حفظ الدين، ولذلك شرع الجهاد ـ وفيه إزهاق الأنفس – من أجل الحفاظ على الدين، وإذا تعارض ما به حفظ النفس على ما به حفظ العقل، قدم ما به حفظ النفس. . وهكذا، كما يقدم حفظ الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينات، عند التعارض.


(١) مسلم عن أنس برقم (٢٨٢٢) .
(٢) الموافقات: ٢ / ٢٥ –٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>