للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تتبدل وسائل حماية الحقوق، كالأخذ في نظام المحاكم الحالية بأسلوب القضاء الجماعي، وتعدد درجات المحاكم، ما دام الهدف أو المبدأ الشرعي واحداً: وهو إحقاق الحق، ومحاربة الباطل، ورعاية المصالح، ودرء المفاسد.

وأما المتغيرات أو القابلة للتغير، فهي الأحكام الاجتهادية المبنية على قاعدة أو مصدر القياس أو رعاية المصلحة، وهذه الأحكام وحدها هي التي يمكن تبدلها، وهي المقصودة بالقاعدة الشرعية المعروفة، "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " (١) .

قال ابن عابدين: "نظراً لتغير الأعراف بتغير الأزمان، فإن الأحكام المبنية على العرف تتغير أيضاً " (٢) .

وعوامل التغير إما فساد (فساد الأخلاق أو القياس أو المصلحة) ، أو تطور (تطور أساليب الحياة) (٣) ، ويتضح ذلك بالأمثلة التالية:

أمثلة فساد الأحوال:

١- أفتى المتأخرون من العلماء بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وعلى وظائف الإمامة والخطابة والأذان وسائر الطاعات من صلاة وصيام وحج، وهو حكم خولف فيه ما كان مقرراً سابقاً بين العلماء، ومنهم أئمة الحنفية وغيرهم، نظراً لتغير الزمان، وانقطاع عطاءات المعلمين والقائمين بالشعائر الدينية من بيت المال، فلو اشتغل هؤلاء بالاكتساب من زراعة أو تجارة أو صناعة، لزم ضياع القرآن، وإهمال تلك الشعائر (٤) .

٢- تضمين الأجير المشترك كالخياط والصباغ والكواء، فإن الأصل هو أنه أمين، لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، ثم قرر بعض الصحابة، مثل عمرو وعلي، ومن تبعهم من الفقهاء ضمانه، نظراً لكثرة الادعاء بهلاك ما في يده، ومحافظة على أموال الناس. وقد قضى الونشريسي بتضمين الراعي المشترك (٥) .

٣- عدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة: فإن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله قررا أنه لابد من تزكية الشهود (أي إظهار عدالة الشاهد وصلاحيته للشهادة بوساطة ثقة) ، للمحافظة على حقوق الناس وعدم ضياعها، علماً بأن ذلك مخالف لما قرره أبو حنيفة من أنه يكتفي بظاهر العدالة فيما عدا الحدود والقصاص، ولم يشترط التزكية، بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهو القرن الأول والثاني والثالث، فنظراً لتغير الزمان، وفشو الكذب، أفتى الصحابان بما يخالف رأي الإمام رحمه الله، نزولاً تحت وطأة العرف.

قال الونشريسي: لا يستفسر القاضي من الشهود العدول عن شهادتهم إلا في الزنا والحدود، لما ورد أن الحدود تدرأ بالشبهات (٦) .

٤- تحقق الإكراه من غير السلطان: كان أبو حنيفة يفتي بأنه لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان، لا من غيره، نظراً لما شاهده في عصره، من أن المنعة والقدرة لم تكن لغير السلطان. ونظراً لفساد الزمان وتغير الحال وظهور الظلمة، فإن الصاحبين أفتيا بتحقق الإكراه من غير السلطان، بناء على ما شهداه في زمانهما (٧) .

٥- منع النساء الشابات من حضور المساجد لصلاة الجماعة، بخلاف ما كان عليه الحال في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، نظراً لفساد الأخلاق، وغلبة السوء.

٦- أفتى فقهاء الحنفية بمنع الزوج من السفر بزوجته، وإن أوفاها المهر المعجل، لفساد الزمان وسوء المعاملة، وأفتوا أيضاً بعدم تصديق المرأة بعد الدخول بها، بأنها لم تقبض المشروط تعجيله من المهر، مع أنها منكرة للقبض، علماً بأن القاعدة تقرر: أن القول قول المنكر بيمينه، وقد تركت هذه القاعدة هنا، لأن المرأة في العادة لا تسلم نفسها قبل قبض المعجل (٨) .


(١) المجلة، م ٣٩.
(٢) رسائل ابن عابدين: ٢ / ١٢٥.
(٣) المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء: ف ٥٤١ – ٥٥٥، ص ٩١٦ وما بعدها.
(٤) تنقيح الفتاوى الحامدية: ٢ / ١٣٧.
(٥) المعيار المعرب: ٨ / ٣٤٣.
(٦) المعيار المعرب: ٩ / ٤١٦.
(٧) الفتاوى الهندية: ٥ / ٣٧.
(٨) رسائل ابن عابدين: ٢ / ١٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>