للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويذهب فريق آخر إلى إنكار هذا الشعار الجديد، وإلى تأكيد أن الحداثة ليست محدودة بزمن أو عصر حتى يقال إنها انتهت أو سقطت، أو يقال إن حقبة أخرى ستتلوها هي حقبة ما بعد الحداثة. وموضوع ما بعد الحداثة لا يدخل في عنوان دراستنا حتى نفصل القول فيه، ولذلك نكتفي بهذه الإشارة العابرة إليه، وربما تساءل بعضنا ساخرًا: وهل دخلنا مرحلة الحداثة حتى نتحدث عن مرحلة ما بعد الحداثة؟

ولا يزال كل هذا الذي ذكرته من تقديم بين يدي الموضوع يحتاج إلى مزيد من التوضيح - على ما بذلت من جهد لتخليصه وتلخيصه -، ولا يتأتى هذا التوضيح المطلوب إلا بعد أن نتحدث عن طبيعة الحداثة وجوهر أفكارها ومبادئها.

والحداثة الغربية نتاج الثقافة الغربية والفكر الفلسفي الغربي، وقد بدأت معالمها تتضح بالتدريج منذ القرن السادس عشر الميلادي، ثم أخذت تنمو وتتدرج في صور الحياة الغربية المختلفة، حتى أصبح الغربيون ينسبون إليها أسباب تقدمهم وازدهار مراحل حضارتهم خلال هذه السنوات الأربع مائة.

والارتباط وثيق بين الحداثة والعلمانية أو الثورة على الكنيسة - خاصة الكاثوليكية في الفاتيكان - وحركات الإصلاح الديني عند مارتن لوثر (١٤٨٣ - ١٥٤٦م) ، وجون كالفن (١٥٠٩ - ١٥٦٤) . وقد كانت تلك العلمانية في بدء أمرها تحررًا فكريًّا من سيطرة الكنيسة ونفوذ رجال الدين من الكهنوت، واحتكارها للعلم والمعرفة، وحجرهم على العقول واضطهادهم للعلماء من غيرهم، وإقامة أنفسهم وسطاء بين الله والناس، ويحكمون عليهم بالكفر والحرمان من الجنة، أو يقبلون توبتهم ويمنحونهم صكوك الغفران. فكانت حركات الإصلاح الديني ودعوات المفكرين تنادي برفع تحكم رجال الكنيسة في الفكر ووصايتهم على العقول، وترك العلاقة بين الله والناس مباشرة مفتوحة، فهو وحده الذي يحكم بالحرمان أو الغفران.

<<  <  ج: ص:  >  >>