للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الثالث

أقسام القرائن

١٩- إن تتبع الفقه الإسلامي في تطبيقاته المتناثرة للقرائن يكشف عن منهج محدد وطريق واضح المعالم، يسترشد به القاضي حين يعز الدليل المباشر أو يقصر عن حد الكفاية.

فقد سوغ الفقه الإسلامي، في هذه الحالة، للقاضي أن يكتفي في التدليل على وجود الواقعة المراد إثباتها، بالتحقق من ثبوت واقعة أخرى تقترن بها أو ترتبط معها، بحكم الغالب الراجح من الأمور، دون اعتداد في هذه الشأن بالحالات النادرة التي يتخلف فيها هذا الغالب، طالما أن من حق من يضيره هذا الاستنتاج أن يثبت عدم مطابقته للواقع في الحالة المعروضة على القضاء، بوصفها من الحالات النادرة.

ثم سار هذا الفقه العظيم في طريق القرائن شوطا أبعد، فأوضح أن المشرع قد يكشف للقاضي عن بعض القرائن: فيقضي في حالات معينة بأن وقائع محددة فيها تقوم شاهدا على الواقعة المراد إثباتها بحكم الغالب الراجح، ويرشد القاضي إلى أن يحكم بوجود الواقعة الأصلية عند تحقق أمارتها، ولكنه لا يجعل من هذا حتما مقضيا، وإنما يجيز للمتضرر من القرينة التي كشف عنها أن يثبت عكسها، تطبيقا في هذا للقواعد العامة التي تجري في شأن أدلة الإثبات جميعها، والتي تقضي بأن الدليل لا يحق أن يستعصي على مقارعة سائر الأدلة له.

فإذا رأى المشرع الحكيم لاعتبارات يتغياها، أن يبعد بالقرينة التي استخلصها عن أصل اشتقاقها من الراجح الغالب، فإنه يحكم بعدم قابليتها لإثبات العكس، وبذلك يصل إلى تقرير قطعية القرينة، دون أن يخرجها في الوقت ذاته عن دائرة الإثبات، ليكون في استطاعة من تقررت لمصلحته- بحسب الأصل- أن يتنازل عن قوتها بالإقرار أو اليمين، مما يعتبر نقضا للقرينة، وإن كان لا يعد إثباتا لعكسها إذ الإقرار يصدر ممن جعلت القرينة لإعفائه من الإثبات، بخلاف إثبات العكس فإنه ينصرف إلى من تقررت ضده القرينة، أما اليمين فهو احتكام إلى ذمة من تقررت لصالحه القرينة، فنكوله عن حلفها إقرار ضمني بحق خصمه واعتراف بالواقعة المدعى بها والتي أعفته القرينة من إثباتها (١) .


(١) المستشار الدكتور عوض محمد المر- المرجع السابق، ص٢٤، ٢٥. الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري - الوسيط - المرجع السابق - جزء أول ص٦٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>