للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث: أنه لولا أنَّ اطَّراد العادات معلوم لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطِّراد العادة في الحال والاستقبال كما اطَّردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أنَّ الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدِّي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترنًا بالدعوة خارقًا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفًا لما اطرد إلا والدَّاعي صادق. فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقه اضطرارًا لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يُدَّعى بدون اقتران الدعوة والتحدى. لكن العلم حاصل على أنَّ ما انبنى عليه العلم معلوم أيضًا وهو المطلوب.

ثم قال [ص٢٨٢، ٢٨٨] :

العوائد المستمرة ضربان:

أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا أو نهى عنها كراهة أو تحريمًا أو أذن فيها فعلا وتركا.

والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.

أما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، وطهارة المتأهب للمناجاة وستر العورات، وللنهي عن الطواف بالبيت للعري، وما اشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إمَّا حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنَّها من جملة الأمور الداخلة تحت حكم الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيهان فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا ولا القبيح حسنًا حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه أو غير ذلك إذ لو صحَّ مثل هذا لكان نسخًا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل فرفع العوائد الشرعية باطل.

وأما الثاني: فقد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل، ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.

فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع والنظر والكلام والبطش والمشي وأشباه ذلك. وإذا كانت أسبابًا لمسببات حكم بها الشارع فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائمًا.

والمتبدلة:

منها ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح، والعكس مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية وغير قبيح في البلاد المغربية فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك فيكون عند أهل المشرق قادحًا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح.

<<  <  ج: ص:  >  >>