للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثامنا – بيع الدين بالدين:

الدين هو الشيء الثابت في الذمة، كثمن مبيع، وبدل قرض، وأجرة مقابل منفعة، وغرامة متلف ومسلم فيه في عقد السلم (بيع آجل بعاجل) .

وبيع الدين: إما أن يكون لمن في ذمته الدين، أو لغير من عليه الدين، وفي كل من الحالين إما أن يباع الدين في الحال، أو نسيئة مؤجلا.

وبيع الدين نسيئة: هو ما يعرف ببيع الكالئ بالكالئ، أي ببيع الدين بالدين، وهو بيع ممنوع شرعا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الدارقطني عن ابن عمر، والطبراني عن رافع بن خديج نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (١) . ومع أن الحديث ضعيف لكن أجمع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، سواء أكان البيع للمدين، أم لغير المدين.

مثال الأول- وهو بيع الدين للمدين: أن يقول شخص لآخر: اشتريت منك هذه السلعة بدينار على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلا، أو أن يشتري شخص شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل، لم يجد البائع ما يقضي به دينه، فيقول للمشتري: بعني هذا الشيء إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض، فيكون هذا ربا حراما تطبيقا لقاعدة: (زدني في الأجل، وأزيدك في القدر) ، كما تقدم في النوع السابق: سابعا.

ومثال بيع الدين لغير المدين: أن يقول رجل لغيره: بعتك السلعة التي لي عند فلان بكذا تدفعها لي بعد شهر. وهذا أيضا حرام.

وإذا كانت أغلب عمليات البورصة تتم في صورة بيع الدين بالدين دون تسليم ولا تسلم كما هو ملاحظ، فلا تجوزه هذه العمليات، ولا بد من تعجيل تنفيذ الصفقة دون تأخير.

أما بيع الدين نقدا في الحال: فمختلف فيه، فقد أجاز جمهور الفقهاء غير الظاهرية بيع الدين لمن عليه الدين أو هبته له، ولم يجز الجمهور غير المالكية بيع الدين لغير المدين، وأجازه المالكية بشروط ثمانية تبعده عن الغرر والربا وأي محظور آخر كبيع الطعام قبل قبضه (٢) . ولا داعي لتفصيل الكلام في هذا النوع من البيع في الحال، لأنه غير موجود في البورصة، لاعتماد أغلب العمليات بها على التأجيل.

تاسعا: عمولات المصارف (البنوك) مقابل الخدمات أو الضمانات:

إن ما يأخذه المصرف (البنك) مقابل خدمات الحراسة، واستئجار الأرض، واستعمال المخازن (التخزين) وأجرة إعداد الفواتير وكتابة الحسابات، جائز مشروع لا شبهة فيه، لأنه مقابل منفعة، وإجارة المنافع والأعمال جائزة شرعا.

أما ما يأخذه المصرف من الفوائد على المال المودع زيادة على الخدمات، أو مقابل القروض أو الضمانات غير المغطاة فعلا، فهو غير مشروع، إلا إذا دخل البنك مع المضارب في شركة صحيحة، أو مضاربة شرعية، في الحالات التي لا يجوز فيها البيع أو الشراء داخل البورصة وهي حالات البيع الحال أو الشراء الحال. أما المؤجل فقد بينا عدم جوازه للغرر والتصرف فيما لا يملك، وبيع الشيء قبل القبض (٣) .

والخلاصة: إن حكم عمليات العقود داخل السوق المالية أو البورصة ما يلي:

١- إذا كانت البضاعة حاضرة (أي وجود عينة) ، والسعر بات، فهذا حلال.

٢- إذا كانت البضاعة حاضرة، والسعر مؤجل ليوم التصفية، فهذا غير جائز عند جماهير العلماء، وأجازه بعض المعاصرين عملا برأي الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم في البيع بما ينقطع عليه السعر.

٣- العقود المؤجلة: وهي الحاصلة في بعض عمليات البورصة، فهذه غير جائزة، لأنها بيع الإنسان ما ليس عنده، وهو غير جائز بسبب وجود الغرر فيه، ولأنها بيع للشيء قبل قبضه، وهو الرأي الذي رجحناه من مذهب الشافعية ومن وافقهم، وهي بيع دين بدين.

والبديل الشرعي عن العقود المؤجلة هو عقد السلم الجائز شرعا، وهو بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة ببدل عاجل يجب قبضه عند الجمهور في مجلس العقد، ويجوز تأخيره مدة قليلة كيوم أو ثلاثة أيام عند المالكية، ويصح عقد السلم بلفظ البيع، ولا يشترط كون المعقود عليه موجودا عند التعاقد، ولا أن يكون في ملك البائع المسلم إليه، وإنما يكفي وجوده عند التسليم، وإنما يشترط فيه ألا يكون العقد مشتملا على ربا النسيئة، أي ألا يكون مطعوما أو نقدا في مقابل مطعوم أو نقد، ويصح أن يكون مطعوما مؤجلا في مقابل نقود.

الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي


(١) إلا أنه حديث ضعيف.
(٢) البدائع: ٥/١٤٨، تكملة ابن عابدين: ٢/٣٢٦، الشرح الكبير للدردير: ٣/٦٣، بداية المجتهد: ٢/١٤٦، المهذب: ١/٢٦٢، المغني: ٤/١٢٠، ١٣٠، غاية المنتهي: ٢/٨٠، كشاف القناع: ٤/٢٣٧، المحلي: ٩/٧، أصول البيوع الممنوعة للشيخ عبد السميع إمام: ص١٩، الغرر وأثره في العقود للدكتور الصديق محمد الضرير: ص٣١٥.
(٣) الموسوعة السابقة: ٥/٤٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>