للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كانت حقيقة الإنسان تتحدد بما ذكرنا من إسكان الروح في بدنه فإن هذا يلزمنا القول: إن التطور الذي يقع للجنين، فينقله من حقيقة إلى أخرى، فيجعله آدمياً بعد أن لم يكن إنما هو نفخ الروح فيه.

وأما التطور البدني الذي يحدث للجنين فإنه لا يغير حقيقته التي نشأ بها عند تكونه من ماء الرجل وماء المرأة، وإن نوع الحياة التي تسببه - بإرادة الله عز وجل - واحد لا يتغير؛ فتلك الحياة هي التي أجرى الله بها انقسام الخلية الواحدة التي تنشأ عند ذلك التكون، وتوليد خلايا جديدة وكثيرة، وهي التي ينشاً عنها كل ما ينشاً بعد ذلك للجنين من أعضاء وأجهزة وأعصاب ودم وعظم وشعر وغير ذلك، وتبقى مع الإنسان في جميع أطواره، قبل ولادته وبعدها، وبها تتجدد خلايا جسده، وتعوض ما يفنى منها، وتغذيها، إلى أن يحين أجله. وقد تبقى هذه الحياة مع بعض أجزاء الإنسان بعد وفاته، وخروج روحه ومفارقتها لتلك الأجزاء؛ فإن أهل صنعة الطب قد قرروا أن أعضاء الجسد تظل محتفظة بهذا النوع من الحياة بعد موت الدماغ، وذلك لمدد متفاوتة، فبعضها تبقى فيه تلك الحياة لدقائق وبعضها لساعات وبعضها لأيام، هذا إذا تركت دون تدخل صناعي من أهل الاختصاص، وأما مع تدخلهم بأجهزة صناعية ابتكرت في هذه الأيام صار من الممكن زيادة الفترات التي تظل معها تلك الحياة في أعضاء الجسد الذي مات دماغ صاحبه (١) ومع أن هذه الزيادة ما زالت محدودة بالساعات والأيام والأسابيع، لكن مجرد النجاح فيها ينبىء عن تقدم علمي يمكن بوساطته الحفاظ على تلك الحياة في أعضاء الموتى إلى مدد أطول قد تصل إلى السنين دون أن تكون في خدمة روح آدمية، ودون أن يكون في مقدورها ممارسة وظائفها التي كانت تمارسها في أجساد أصحابها تحت إمرة أرواحهم؛ فلا اليد تتحرك فضلاً عن أن تبطش، ولا العين ترمش فضلاً عن أن تبصر، ولا الأذن تسمع، ولا الرجل تمشي. ومع ذلك فإن نوع تلك الحياة التي بدأت مع الخلقة الأولى من جسد الآدمي ما زالت موجودة. فإذا ما وضعت هذه الأعضاء التي ما زالت تحتفظ بتلك الحياة في خدمة روح جديدة، فزرعت في جسد آدمي فيه روح استعملتها هذه الروح الجديدة، وأدت هذه الأعضاء وظائفها بالفاعلية نفسها التي كانت تؤديها عند انفصالها عن جسد صاحبها الأول (٢)


(١) انظر بحثاً للدكتور محمد علي البار عنوانه (انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً) مقدماً إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته المنعقدة عام ٩٨٧ام: ص ٥، ٩.
(٢) مع أن تنفيذ هذا في الواقع يعتبر من ثمرات التقدم العلمي في النصف الثاني من القرن العشرين لكن بعض علماء المسلمين القدامى أشاروا إلى أنه لو أمكن نقل عضو من إنسان إلى إنسان آخر بدلاً من عضوه الضعيف، فإن العضو المنقول يعمل بكفاءته التي كان عليها، ومما قالوه في ذلك: (إن الشيخ لو وجد عيناً كعين الشاب لأبصر كما يبصر الشاب) - انظر: مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد: ص ٢٤٧. ويدل ذلك على أنهم كانوا يدركون حقيقة أن الجسد آلة الروح، وأن فيه نوعاً من الحياة يختلف عن حياة الروح، وأن هذه الحياة تبقى وان انفصلت عنها الروح التي كانت تستخدمها، وأنها مستعدة بإعداد الله تعالى لها لخدمة أية روح بشرية بكامل فعاليتها من غير أن تتأثر.

<<  <  ج: ص:  >  >>