للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما تقدم يتبين أن إتلاف الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح إذا كان بإذن أبويه ليس فيه تفويت لمصلحة ضرورية ولا حاجة تخص الجنين أو والديه.

وأما مفسدة كشف عورة المرأة المتبرعة، فتحديد مرتبتها أيسر من سابقتها؟ وذلك أن كلمة العلماء متفقة على أن ستر العورة يقع في رتبة التحسينيات، ومفسدة كشفها أقل في رتبتها من مفاسد كثير من الأمراض العادية، فضلاً عن الأمراض المستعصية؟ حتى أذن الشارع بتحملها للعلاج، ولأعذار أخرى (١)

وأما مفسدة المساس بكرامة الآدمي فأغلب الظن أنها مفسدة مبالغ فيها إذأ صيغت على النحو السابق؛ لأن الجنين في هذه المرحلة ليس آدمياً ولا جزءاً من آدمي، كما بينا في المطلب الأول من هذا المبحث. وأصل كرامة الآدمي ما نفخ فيه من روح، هي الذات الحية العاقلة التي تمنحه جميع خصائصه المتميزة، مما جعل مكانته في قمة مراتب المخلوقات.

ومن جهة أخرى فإن معنى المساس بالكرامة الآدمية يتوقف وجوده على القصد من الأفعال التي فعل بالآدمي؛ حتى إن الفعل الواحد قد يوصف بأنه مهين للإنسان ومسيء إلى كرامته، وقد لا يوصف بذلك، تبعاً لقصد فاعله وغايته من فعله، فإن كان قصده التمثيل والتشنيع والإهانة كان عملاً مسيئاً للكرامة الآدمية، وإن تجرد قصده عن ذلك، واتجه إلى تحقيق مصالح معتبرة لبني آدم لم يكن في ذلك اساءة للكرامة الإنسانية؟ ألا يرى أن الاجتهاد المعاصر قد استقر على جواز التبرع ببعض أعضاء الآدمي، وأجاز إجراء التجارب والبحث على الدم والمني وتشريح الجثث الآدمية لأغراض علمية وغيرها، ولم يقف معنى الكرامة حائلا دون ذلك الاتجاه.

وأما مفسدة فتح الباب أمام الاستغلال وإساءة التصرف في أجزاء الأجنة، فهذا أمر لا ينشاً عن ذات التصرف محل البحث، وإنما عن الانحراف في ممارسته، وكل مباح يمكن أن يساء استعماله، فلا يكون ذلك سبباً في التحريم، وإنما يكون حافزاً على أخذ الاحتياطات العملية عند التنفيذ، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم بأن الأعمال الطبية، وهي أعمال موضوعها الجسد الإنساني، كلها محرمة، مع أنها في معظمها يمكن أن يساء استعمالها، فالنساء يلدن في المستشفيات والاحتمال قائم في اختلاط المواليد، والمرأة تمرض وتحتاج إلى العلمية الجراحية، والاحتمال قائم في استغلالها وأخذ بيضاتها وهي تحت التخدير لا تدري شيئاً، والحيوانات المنوية تؤخذ من الرجال لإجراء الفحص عليها في كثير من الحالات المرضية مع قيام الاحتمال باستعمالها في أغراض محرمة، ولا يكاد عمل من أعمال الأطباء الذي يكون محله الآدمي إلا ويدخله احتمال الاستغلال وإساءة التصرف، ولا أحد يقول بتحريم العلاج وإجراء العمليات الجراحية ونحو ذلك. والمخرج في ذلك كله هو تقييد المباحات التي تحتمل الاستغلال، والاحتياط لها في الواقع بالقيود التنفيذية، والمراقبة الفعالة، ومنع التعرف في ممارستها بالتشريعات الدقيقة الجامعة المانعة، وإلا فإن هذا يدخل كل باب ويؤول إلى التضييق على العباد.


(١) انظر: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: ١/ ١١٥، والموافقات للشاطبي: ٢/ ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>