للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قُلُوبِ الْخَلْقِ كَذَلِكَ، فَلَا يُحْصِي أَحَدٌ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَقْدُرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ وَلَا يَعْلَمُ عِظَمَ قَدْرِهِ إِلَّا هُوَ، وَتِلْكَ صِفَةٌ يَمْتَازُ بِهَا وَيَخْتَصُّ بِهَا عَنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَمَّا قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: إِنَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ نَحْنُ نَعْلَمُ مَخْلُوقَاتٍ كَثِيرَةً لَيْسَ فِيهَا مَنْ عِظَمِ الرَّبِّ شَيْءٌ وَإِنْ أَضَفْتُمْ ذَلِكَ إِلَى مُجَرَّدِ تَعْظِيمِ الْقُلُوبِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ صِفَاتٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَقَدْرٌ عَظِيمٌ يَخْتَصُّ بِهِ، فَذَاكَ اعْتِقَادٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَصَاحِبُهُ قَدْ عَظَّمَهُ بِأَنِ اعْتَقَدَ فِيهِ عَظَمَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَذَلِكَ اعْتِقَادٌ يُضَاهِي اعْتِقَادَ الْمُشْرِكِينَ فِي آلِهَتِهِمْ، وَإِنْ قَالُوا: بَلْ نُرِيدُ مَعْنًى ثَالِثًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَهُوَ أَنَّ لَهُ فِي نَفْسِهِ قَدْرًا يَسْتَحِقُّهُ، لَكِنَّهُ قَدْرٌ مَعْنَوِيٌّ، قِيلَ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً عَظِيمَةً يَخْتَصُّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَصِفَاتٍ عَظِيمَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا، وَذَاتًا عَظِيمَةً يَمْتَازُ بِهَا عَنِ الذَّوَاتِ وَمَاهِيَّةً أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَاهِيَّةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ؟ فَذَلِكَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُحَقَّقٌ، وَإِذَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ كَانَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يُشْرِكُهُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ، فَهُوَ فِي حَقِّ الْخَالِقِ قَدْرٌ يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَفِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ قَدْرٌ يُنَاسِبُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: ٣] فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ قَدْرًا يَخُصُّهُ، وَالْقَدْرُ يَكُونُ عِلْمِيًّا وَيَكُونُ عَيْنِيًّا، فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّقْدِيرُ الْعِلْمِيُّ، وَهُوَ تَقْدِيرُ الشَّيْءِ فِي الْعِلْمِ وَاللَّفْظِ وَالْكِتَابِ، كَمَا يَقْدُرُ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ وَيَكْتُبَهُ وَيَفْعَلَهُ فَيَجْعَلُ لَهُ قَدْرًا، وَمِنْ هَذَا تَقْدِيرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَقَادِيرِ الْخَلْقِ فِي عِلْمِهِ وَكِتَابِهِ قَبْلَ تَكْوِينِهَا، ثُمَّ كَوَّنَهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي عَلِمَهُ وَكَتَبَهُ، وَالْقَدَرُ الْإِلَهِيُّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ، وَالثَّانِي خَلْقُهَا وَبُرْؤُهَا وَتَصْوِيرُهَا بِقُدْرَتِهِ الَّتِي يَخْلُقُ بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَالْخَلْقُ يَتَضَمَّنُ الْإِبْدَاعَ وَالتَّقْدِيرَ جَمِيعًا، وَالْعِبَادُ لَا يَقْدُرُونَ الْخَالِقَ قَدْرَهُ، وَالْكُفَّارُ مِنْهُمْ لَا يَقْدُرُونَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ إِلَّا فِي حَقِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ٩١] ، وَهَذَا إِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: ٩١] وَلَمْ يَقُلْ قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ، فَإِنَّ حَقَّ قَدْرِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لِقَدْرِهِ، فَهُوَ حَقٌّ عَلَيْهِمْ لِقَدْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَجَحَدُوا ذَلِكَ الْحَقَّ وَأَنْكَرُوهُ، وَمَا قَامُوا بِذَلِكَ الْحَقِّ مَعْرِفَةً وَلَا إِقْرَارًا وَلَا عُبُودِيَّةً، وَذَلِكَ إِنْكَارٌ لِبَعْضِ قَدْرِهِ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ

<<  <   >  >>