للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ لُغَةُ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ أَوْسَعَ وَتَصَوُّرُهُمُ الْمَعَانِيَ أَتَمَّ فَإِذَا قُلْتُ: زَيْدٌ أَسَدٌ أَمْكَنَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِكُلِّ لُغَةٍ، وَإِنِ ادَّعَيْتُمْ عُمُومَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ اللُّغَاتِ فَقَدْ حَكَمْتُمْ عَلَى لُغَاتِ الْأُمَمِ عَلَى أَنَّ كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا مَجَازَاتٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَأَنَّهَا قَدْ نُقِلَتْ عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ إِلَى مَوْضُوعَاتٍ غَيْرِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ يُنْكِرُهُ أَهْلُ كُلِّ لُغَةٍ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، بَلْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ لُغَاتِهِمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَوْضُوعَاتِهِمَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْهَا، وَأَنَّهُمْ نَقَلُوا لُغَتَهُمْ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَمَنْ قَبْلَهُمْ كَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ، لَمْ يَنْقُلْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ أَنَّ لُغَتَهُمْ كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا خَرَجَتْ عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا إِلَى غَيْرِهَا.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا، وَكَلَامُهُ لَا ابْتِدَاءَ لَهُ وَلَا انْتِهَاءَ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا، وَفَهِمَ عِبَادُهُ مُرَادَهُ مِنْهُ لَمْ يَضَعْهَا سُبْحَانَهُ لِمَعَانٍ ثُمَّ نَقَلَهَا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَا كَانَ تَكَلُّمُهُ سُبْحَانَهُ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ تَابِعًا لِأَوْضَاعِ الْمَخْلُوقِينَ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ دَعْوَى الْمَجَازِ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا عَلَى أُصُولِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ كَلَامٌ، وَهَؤُلَاءِ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى تَضْلِيلِهِمْ وَتَكْفِيرِهِمْ.

وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهَا حَقِيقَةً، وَأَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَأَنَّهُ يُكَلِّمُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُكَلِّمُ مَلَائِكَتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَى أَصْلِهِ دُخُولُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِهِ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا، وَلَا سِيَّمَا عَلَى أُصُولِ مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدًا لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى؟ فَلَيْسَ بَعْضُهَا أَسْبَقَ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْمَفْهُومَاتِ لَهُ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَبَعْضُهَا بِالْوَضْعِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ مَنْ يَجْعَلُ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَعَانِي قَدِيمَةً لَا يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ; فَكَيْفَ يُعْقَلُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَضْعٌ أَوَّلُ يَكُونُ حَقِيقَةً، وَوَضْعٌ ثَانٍ يَكُونُ مَجَازًا ; وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَسَادَ دَعْوَاهُمْ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْقُرْآنِ أَنَّهَا مَجَازٌ لَوْ كَانَ مَجَازٌ حَقًّا.

فَإِنْ قِيلَ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ خَاطَبَهُمْ بِمَا أَلِفُوهُ مِنْ لُغَاتِهِمْ وَاعْتَادُوا مِنَ التَّفَاهُمِ مِنْهَا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ خِطَابِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، جَاءَ اللَّهُ لَهُمْ بِذَلِكَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الْفَهْمُ وَالْبَيَانُ، قِيلَ: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى سَابِقٌ عَلَى مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَهَلْ كَانَ فِي

<<  <   >  >>