للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَانَ تَعْيِينُهُ قَوْلًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِخْبَارًا عَنْهُ بِإِرَادَةِ مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَذَبَ عَلَيْهِ.

الرَّابِعُ: أَنَّ فِي السِّيَاقِ مَا يُبْطِلُ هَذَا التَّقْدِيرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: ٢٢] فَعَطْفُ مَجِيءِ الْمَلَكِ عَلَى مَجِيئِهِ سُبْحَانَهُ يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْمَجِيئَيْنِ، وَأَنَّ مَجِيئَهُ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةٌ، كَمَا أَنَّ مَجِيءَ الْمَلَكِ حَقِيقَةٌ، بَلْ مَجِيءُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً مِنْ مَجِيءِ الْمَلَكِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: ١٥٨] فَفَرَّقَ بَيْنَ إِتْيَانِ الْمَلَائِكَةِ وَإِتْيَانِ الرَّبِّ وَإِتْيَانِ بَعْضِ آيَاتِ رَبِّكَ، فَقَسَّمَ وَنَوَّعَ، وَمَعَ هَذَا التَّقْسِيمِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْقِسْمَانِ وَاحِدًا فَتَأَمَّلْهُ.

وَلِهَذَا مَنَعَ عُقَلَاءُ الْفَلَاسِفَةِ حَمْلَ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مَجَازِهِ، وَقَالُوا: هَذَا يَأْبَاهُ التَّقْسِيمُ وَالتَّرْدِيدُ وَالِاطِّرَادُ.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ الْمُقَدَّرِ لَمْ يَحْسُنْ وَكَانَ كَلَامًا رَكِيكًا، فَادِّعَاءُ صَدِيقِ مَا يَكُونُ النُّطْقُ بِهِ مُشْتَرَكًا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ مَلَكُ رَبِّكَ أَوْ أَمْرُ رَبِّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ كَانَ مُسْتَهْجَنًا.

السَّادِسُ: أَنَّ اطِّرَادَ نِسْبَةِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ صَرَّحْتُمْ بِأَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ الِاطِّرَادَ، فَكَيْفَ كَانَ هَذَا الْمُطَّرِدُ مَجَازًا.

السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ مُسْتَحِيلًا عَلَيْهِ لَكَانَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ، وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ، فَمَتَى عَهِدْتُمْ إِطْلَاقَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ عَلَيْهِ وَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِ نِسْبَةً مَجَازِيَّةً، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِغَيْرِهِ؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْكَمَالِ الْبَتَّةَ؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: ٢٢] وَأَتَى وَيَأْتِي عِنْدَكُمْ فِي الِاسْتِحَالَةِ، مِثْلُ نَامَ وَأَكَلَ وَشَرِبَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُطْلِقُ عَلَى نَفْسِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَلَا رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا مُطْلَقَةً فَضْلًا عَنْ تَطَرُّدِ نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ، وَقَدِ اطَّرَدَ نِسْبَةُ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَكَيْفَ تُسَوَّغُ دَعْوَى الْمَجَازِ فِيهِ.

الثَّامِنُ: أَنَّ الْمَجَازَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذْ هِيَ الْأَصْلُ، فَمَا الَّذِي أَحَالَ حَمْلَ ذَلِكَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ نَقْلٍ أَوِ اتِّفَاقٍ مِنِ

<<  <   >  >>