للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْبَتَّةَ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَقْصًا وَلَا سَلْبَ كَمَالٍ، بَلْ هُوَ الْكَمَالُ نَفْسُهُ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ كَمَالٌ وَمَدْحٌ، فَهِيَ حَقٌّ دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ، وَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ كَمَا أَنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ مُتَكَلِّمٌ، قَدِيرٌ عَلِيمٌ مُرِيدٌ، وَمَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَازِمُ الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا فِي الْآخِرَةِ هُوَ حَقٌّ، فَلَازِمُهُ حَقٌّ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالْعَجَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْمَعْقُولَاتِ، وَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِ لَازِمِهِ، وَيُصَرِّحُونَ بِإِثْبَاتِهِ، وَيُثْبِتُونَ لَوَازِمَهُ بِإِثْبَاتِهِ، وَيُصَرِّحُونَ بِنَفْيِهِ، وَلِهَذَا عُقَلَاؤُهُمْ لَا يَسْمَحُونَ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ نُزُولًا وَلَا مَجِيئًا، وَلَا إِتْيَانًا وَلَا دُنُوًّا، وَلَا اسْتِوَاءً وَلَا صُعُودًا الْبَتَّةَ، وَإِثْبَاتُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ عِنْدَهُمْ فِي الِامْتِنَاعِ كَإِثْبَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ عَقْلًا وَنَقْلًا وَفِطْرَةً وَقِيَاسًا وَاعْتِبَارًا، فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ.

قَالُوا وَقَوْلُنَا إِنَّهُ نُزُولٌ لِاعْتِبَارٍ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَانْتِقَالِ الْأَجْسَامِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، كَمَا قُلْتُمْ إِنَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَحَيَاتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَإِرَادَتَهُ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.

قَالُوا وَنَحْنُ لَمْ نَتَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ أَثْبَتْنَا لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْزَمْتُمْ أَنْتُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِالِانْتِقَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ إِنَّمَا هُوَ إِلْزَامٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّا لَمْ نَتَعَدَّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، فَكَأَنَّكُمْ قُلْتُمْ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ نُزُولًا وَمَجِيئًا وَإِتْيَانًا وَدُنُوًّا لَزِمَهُ وَصْفُهُ بِالِانْتِقَالِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَهُوَ حَقٌّ بِلَا رَيْبٍ، فَكَانَ جَوَابُنَا إِنَّ الِانْتِقَالَ إِنْ لَزِمَ مِنْ إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ ضَرُورَةً، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ، بَطَلَ إِلْزَامُكُمْ وَنَظِيرُ هَذَا مُنَاظَرَةٌ جَرَتْ بَيْنَ جَهْمِيٍّ وَسُنِّيٍّ.

قَالَ الْجَهْمِيُّ: أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا بِالْأَبْصُرِ؟ قَالَ السُّنِّيُّ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ الْجَهْمِيُّ: هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْجِهَةِ وَالْحَدِّ وَكَوْنِ الْمَرْئِيِّ مُقَابِلًا لِلرَّائِي مُوَاجِهًا لَهُ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَتَجْسِيمٌ، قَالَ لَهُ السُّنِّيُّ: قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ الرَّسُولُ وَبَلَّغَهُ الْأُمَّةَ، وَأَعَادَهُ وَأَبْدَاهُ، فَذَلِكَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَإِنْ لَزِمَ مَا ذَكَرْتَ فَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ بَطَلَ سُؤَالُكَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْجَهْمِيَّةِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: أَتَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ

<<  <   >  >>