للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قَدَّمْنَا الْعَقْلَ، مِنْ هُنَا اشْتَقَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَجَعَلَهَا أَصْلًا لِرَدِّ نُصُوصِ الْوَحْيِ الَّتِي يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ يُخَالِفُهَا، وَعَرَضَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ لِعَدُوِّ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ كِبْرِهِ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ الِانْقِيَادِ الْمَحْضِ لِنُصُوصِ الْوَحْيِ، وَهَكَذَا إِلْحَادُهُ فِي نُصُوصِ الْوَحْيِ إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ كِبْرٌ فِي صَدْرِهِ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: ٥٦] وَكَذَلِكَ خُرُوجُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ إِنَّمَا كَانَ بِالتَّأْوِيلِ، وَإِلَّا فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِالْأَكْلِ مَعْصِيَةَ الرَّبِّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَجْهِ تَأْوِيلِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَأَوَّلَ بِحَمْلِهِ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ عَلَى الشَّجَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَغَرَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ بِأَنَّ جِنْسَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ وَأَطْمَعَهُ فِي أَنَّهُ إِنْ أَكَلَ مِنْهَا لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لَهُ: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: ٢٠] فَذَكَرَ لَهُمَا عَدُوُّ اللَّهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا، إِمَّا بِعَيْنِهَا أَوْ بِجِنْسِهَا، وَصَرَّحَ لَهُمَا بِأَنَّهَا هِيَ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ آدَمَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ تِلْكَ الشَّجَرَةُ الْمُعَيَّنَةُ دُونَ سَائِرِ النَّوْعِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِأَكْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَنَزَعَ عَنْهُ لِبَاسَهُ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: تَأَوَّلَ آدَمُ أَنَّ النَّهْيَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ فَأَقْدَمَ، وَأَيْضًا فَحَيْثُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِعْلِ الشَّيْءِ بِقُرْبَانِهِ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا لِتَحْرِيمٍ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: ٢٢٢] {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: ٣٢] {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام: ١٥٢] وَأَيْضًا لَوْ كَانَ لِلتَّنْزِيهِ لَمَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَصَى رَبَّهُ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا كَانَ عَنْ قُرْبَانِهِمَا وَأَكْلِهِمَا مَعًا، لَا عَنْ أَكْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا تَقْرَبَا} [البقرة: ٣٥] نَهْيٌ لَهُمَا عَنِ الْجَمْعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ النَّهْيِ حَالَ الِاجْتِمَاعِ حُصُولُهُ حَالَ الِانْفِرَادِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْخَطِيبِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى فِي الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ هَذَا

<<  <   >  >>