للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بِمُوجِبِ التَّوَاتُرِ مِثْلُ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ وَنَحْوِهِمَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَخْبَارِ يُفِيدُ قَدْرًا مِنَ الْعِلْمِ، فَإِذَا تَعَدَّدَتِ الْأَخْبَارُ وَقَوِيَتْ أَفَادَتِ الْعِلْمَ، إِمَّا لِلْكَثْرَةِ وَإِمَّا لِلْقُوَّةِ وَإِمَّا لِمَجْمُوعِهِمَا، كَمَا يَحْصُلُ الشِّبَعُ إِمَّا بِكَثْرَةٍ أَوْ بِقُوَّةِ الْمَأْكُولِ وَإِمَّا لِمَجْمُوعِهِمَا.

وَالْعِلْمُ بِمُخْبِرِ الْخَبَرِ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ حُرُوفِهِ بَلْ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ مَعَ سَمَاعِ لَفْظِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي قَلْبِ الْمُسْتَمِعِ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، الْعِلْمُ بِطَرِيقِهَا وَمَعْرِفَةُ حَالِ رُوَاتِهَا وَفَهْمُ مَعْنَاهُ، حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ، وَلِهَذِهِ كَانَ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ قَاطِعِينَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، شَاهِدِينَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازِمِينَ بِأَنَّ مَنْ كَذَبَ بِهَا أَوْ أَنْكَرَ مَضْمُونَهَا فَهُوَ كَافِرٌ، مَعَ عِلْمِ مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى سِيرَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ صِدْقًا وَأَمَانَةً وَدِيَانَةً وَأَوْفَرِهِمْ عُقُولًا وَأَشَدِّهِمْ تَحَفُّظًا وَتَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ وَمُجَانَبَةً لِلْكَذِبِ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُجَابِي فِي ذَلِكَ آبَاهُ وَلَا ابْنَهُ، وَلَا شَيْخَهُ وَلَا صَدِيقَهُ، وَأَنَّهُمْ حَرَّرُوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيرًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ سِوَاهُمْ، لَا مِنَ النَّاقِلِينَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمْ شَاهَدُوا شُيُوخَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَأَعْظَمَ، وَأُولَئِكَ شَاهَدُوا مَنْ فَوْقَهُمْ كَذَلِكَ وَأَبْلَغَ، حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى مَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ، وَأَخْبَرَ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَاخْتِبَارِهِ لَهُمْ وَاتِّخَاذِهِ إِيَّاهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ أَفَادَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ يَنْقُلُهُ كُلُّ طَائِفَةٍ عَنْ صَاحِبِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ وِجْدَانِيٌّ عِنْدَهُمْ لَا يُمْكِنْكُمْ جَحْدُهُ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تُحِسُّونَهُ مِنَ الْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، حَتَّى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ وَيَحْلِفُونَ عَلَيْهِ وَيُبَاهُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ الْقَادِحِينَ فِي أَخْبَارِهِ وَسُنَّتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُوَاةُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَاذِبِينَ أَوْ غَالِطِينَ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ أَعْدَائِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي جَاءَ بِهِ شَيْطَانٌ كَاذِبٌ.

وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَصْدَقُ الطَّوَائِفِ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَجَدْتُ الدِّينَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالْكَلَامَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَالْكَذِبَ لِلرَّافِضَةِ، وَالْخَيْلَ لِأَهْلِ الرَّأْيِ، وَسُوءَ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ لِآلِ أَبِي فُلَانٍ.

وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَالِمِينَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَحَدَّثَ بِهَا فِي الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، لَمْ يَكُنْ مَنْ لَا عِنَايَةَ لَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ آحَادٌ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، مَقْبُولًا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَدَعُونَ الضَّرُورِيَّ، وَخُصُومُهُمْ إِمَّا أَنْ يُنْكِرُوا حُصُولَهُ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ، فَإِنْ أَنْكَرُوا

<<  <   >  >>