للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يَقِينًا، لَكِنَّ اللَّهَ قَالَ: احْكُمُوا بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ، وَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَهَذَا فَرْقٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، فَلَمْ نَحْكُمْ بِالظَّنِّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ بَلْ بِعِلْمٍ قَاطِعٍ فَإِذَا قَالُوا: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: ١٢] وَلَمْ يَقُلْ كُلُّ الظَّنِّ إِثْمٌ (قُلْنَا) : قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الْإِثْمَ مِنَ الْبِرِّ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُعْلَمُ حَرَامٌ، فَهَذَا مِنَ الظَّنِّ الَّذِي هُوَ إِثْمٌ بِلَا شَكٍّ.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: فَلَجَأَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْحُكْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِلدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ تَخَلَّصُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَخَلَّصُوا، بَلْ كُلُّ مَا لَزِمَ غَيْرَهُمْ مِمَّا ذَكَرْنَا فَهُوَ لَازِمٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَاهَا، الْآحَادُ، أَهِيَ كُلُّهَا حَقٌّ إِذَا جَاءَتْ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ خَاصَّةً أَمْ كُلُّهَا بَاطِلٌ، أَمْ فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ؟ .

فَإِنْ قَالُوا: فِيهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ، قُلْنَا لَهُمْ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَبْطُلَ شَرِيعَةٌ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إِلَى نَبِيِّهِ حَتَّى تَخْتَلِطَ بِكَذِبٍ وَضَعَهُ فَاسِقٌ فَنَسَبَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَهِمَ فِيهِ وَاهِمٌ فَيَخْتَلِطَ الْحَقُّ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعَ الْبَاطِلِ الْمُخْتَلَقِ اخْتِلَاطًا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ أَبَدًا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَهَلِ الشَّرَائِعُ الْإِسْلَامِيَّةُ كُلُّهَا مَحْفُوظَةٌ لَازِمَةٌ لَنَا، أَمْ هِيَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَلَا كُلُّهَا لَازِمٌ لَنَا، بَلْ قَدْ سَقَطَ مِنْهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ كَثِيرٌ، وَهَلْ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْنَا لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْنَا مِنَ الشَّرَائِعِ بِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لَنَا مُتَمَيِّزَةٌ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْنَا بِهِ، أَمْ لَمْ تَقُمْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا حُجَّةٌ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُ مُخْتَلِطٌ بِالْكَذِبِ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْهُ أَبَدًا.

فَإِنْ أَجَازُوا اخْتِلَاطَ شَرَائِعِ الدِّينِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى بِهَا إِلَى نَبِيِّهِ بِمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَقَالُوا: لَمْ يَقُمْ لِلَّهِ عَلَيْنَا حُجَّةٌ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ، دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَوْلِ بِفَسَادِ الشَّرِيعَةِ وَذَهَابِ الْإِسْلَامِ وَبُطْلَانِ ضَمَانِ اللَّهِ لِحِفْظِ الذِّكْرِ، كَالَّذِي دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ الصَّحِيحِ كَمَا لَزِمَ غَيْرَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَطَلَ بَيَانُهُ وَأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَمْ تَقُمْ عَلَيْنَا، وَإِنْ لَجَئُوا إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى خَبَرِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَنْفَكُّوا بِذَلِكَ مِنْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الدِّينِ قَدْ بَطَلَ لِاخْتِلَاطِهِ بِالْكَذِبِ الْمَوْضُوعِ وَبِالْمَوْهُومِ فِيهِ، وَمِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا، إِذْ قَدْ بَطَلَ ضَمَانُ حَفْظِ اللَّهِ فِيهَا.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَعْجِزُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ فِي أَيِّ خَبَرٍ شَاءَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ بَلْ

<<  <   >  >>