للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: ٤٣] وَكَانَ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ قَبِلَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إِسْقَاطِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ دُونَ مَنْ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: ٦] وَكَانَ الصَّوَابُ قَبُولَ حَدِيثِ خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَتْلَى بَدْرٍ دُونَ رَدِّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: ٨٠] وَهَذَا وَإِنْ وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَتَّفِقُوا كُلُّهُمْ عَلَى رَدِّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِالْقُرْآنِ، بَلْ كَانَ الَّذِينَ قَبِلُوهُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الَّذِينَ رَدُّوهُ، وَقَوْلُهُمْ هُوَ الرَّاجِحُ قَطْعًا دُونَ قَوْلِ الْآخَرِينَ فَلَا يُرَدُّ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ أَبَدًا إِلَّا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ نَاسِخٍ لَهُ يُعْلَمُ مُقَاوَمَتُهُ لَهُ وَمُعَارَضَتُهُ لَهُ وَتَأَخُّرُهُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَتَّةَ.

وَطَائِفَةٌ أُخْرَى رَدَّتِ الْأَحَادِيثَ بِعَدَمِ مَعْرِفَتِهَا بِمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهَا، وَسَمَّوْا عَدَمَ عِلْمِهِمْ إِجْمَاعًا وَرَدُّوا بِهِ كَثِيرًا مِنَ السُّنَنِ، وَبَالَغَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَوَسَّعَ الشَّافِعِيُّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي الرِّسَالَتَيْنِ وَكِتَابِ جُمَّاعِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ مَعْلُومَةٌ نَاسِخَةٌ، فَتُجْمِعُ عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنَّةِ النَّاسِخَةِ، وَأَمَّا أَنْ تَتَّفِقَ عَلَى الْعَمَلِ بِتَرْكِ حَدِيثٍ لَا نَاسِخَ لَهُ، فَهَذَا لَمْ يَقَعْ أَبَدًا، وَلَا يَجُوزُ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْحٌ فِيهَا وَنِسْبَةٌ لَهَا إِلَى تَرْكِ الصَّوَابِ وَالْأَخْذِ بِالْخَطَأِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، لَعَلَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمِّ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ النَّاسَ اخْتَلَفُوا (قَالَ) فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: أَجْمَعُوا إِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ أَجْمَعُوا فَاتَّهِمْهُمْ، لَوْ قَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا جَازَ (وَقَالَ) فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: هَذَا كَذِبٌ مَا أَعْلَمُهُ أَنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا: فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ إِجْمَاعَ النَّاسِ.

وَقَالُوا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَارِثِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْإِجْمَاعَ، لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا.

<<  <   >  >>